القدس...... رؤية غربية.
كانت زيارة الشرق أمنية لكثير من الشخصيات الغربية و خاصة في بدايات القرن الماضي بعد أن قطعت أوربا شوطاً في الحضارة و التكنولوجيا المادية و كان هناك نزوع نحو الشرق و رغبة جامحة في ولوج عالمه الروحي فاتجه الجل منهم نحوه و سبروا أغواره ووقفوا على أسراره سواء بقصد استكشاف تاريخه و حضارته أو بهدف الاطلاع على علومه و أديانه أو على أمل خدمة الدوائر الاستعمارية .
و لعل من أشهر تلك الشخصيات الرحال و المفكر النمساوي ليو بولد فايس الذي أمضى في الشرق زهرة شبابه و بقية سني عمره فقضى في البلاد العربية و الإسلامية ستة و أربعين عاماً قضى أكثرها في الجزيرة العربية فعاصر الملك عبد العزيز و التقى بالبطل المجاهد عمر المختار و زار القدس ووقف على وضع فلسطين من بدايات ترحيل الصهاينة إليها ووقف بنفسه على الطريقة البشعة التي شاركت فيها كثير من الدول لوضع أسس حرب إبادة و تهجير لشعب بكامله ووضع غيره بدلاً منه .
و إن ما تركه من مذكرات و شهادات ليمثل وثيقة تاريخية مهمة و شهادة غربية لمرحلة محددة في قضية تعتبر منعطفاً تاريخياً خطيراً في حياة العرب و المسلمين بل تصنف من قضايا العالم أجمع فقد مضت على هذه المسألة سنوات طويلة دون حل كما لا يلوح في الأفق أي أمل حقيقي.
بداية الرحلة إلى القدس:
اتخذ ليو قراره بالرحيل فجأة حينما أرسل له خاله الطبيب المقيم في القدس رسالة يدعوه لزيارة القدس ،لم يكن الفتى الأوربي ذو الملامح الواضحة قد تخطا العقد الثالث من عمره فقد ألفى الشرق حلما له يشدّه الشوق العارم إليه فترك دراسته في الجامعة و لم يستطع إيقاف طموحه الجارف فأزمع على الانطلاق .
و بالسرعة الفائقة كعادته - كما يقول - يستعد ليستقل الباخرة نحو الجنوب باتجاه ميناء (الإسكندرية ) التاريخي الذي كانت تتجه نحوه الرحلات الأوربية منذ أن ركب الإنسان البحر.
و من الإسكندرية يعتلي القطار إلى حيث ( يافا ) مارّاً ( بغزة ) و هو يعزم زيارة ( القدس) مدينة الأديان المقدسة درّة الشرق و مجمع المقدسات السماوية ، القدس... تلك المدينة التي طالما حلُم بزيارتها بالإضافة إلى حبه الشديد لرؤية بلاد الشمس اللافحة و الصحارى المتباعدة و كثبان الرمال الرخوة و سفن الصحراء العربية ... الجِمال التي تسبح في بحار الرمال بصبر و ثبات .
ضيافة لكن في القطار:(1)
يرصد ليو حركة الناس بدقة متناهية فها هو يصف الصور الحية و يسجلها في ملاحظاته اليومية ..... فحينما يقف القطار في محطة صغيرة كان الأولاد السمر يظهرون للعيان و على أجسادهم خرق بالية ، يحملون السلال و فيها التين و البيض المسلوق و أرغفة الخبز العربي الطازج يعرضونها على المسافرين .
وينهض البدوي الذي يجلس قبالته ببطء و يحل كوفيته ثم يفتح الشباك فإذا به دقيق الوجه أسمر اللون واحد من تلك الوجوه الصحراوية التي تذكرك بالصقور حيث تتطلع دائماً إلى الأمام بتصميم وعزم .
لقد ابتاع البدوي قطعة من الكعك ( رغيف الخبز ) ثم استدار و كان على وشك الجلوس حينما وقعت عيناه على هذا الأوربي الغريب الذي يشاركه السفر فما كان منه إلا أن قسّم الكعكة ( الرغيف ) قسمين ثم قدّم إحداهما إليه قائلا : تفضل فأخذ من يده و شكره بإيماءة من رأسه ثم قال له البدوي : كلانا مسافران و طريقنا واحد .
كانت هذه الصور في أول يوم من وصوله إلى بلاد العرب فحينما كان يرى البدو كان يغمره شعور داخلي بعالم لا حدود له و كان هذا الموقف البسيط مع هذا البدوي كفيلاً بأن يثير فيه حب الخلق العربي و أن يتأثر به غاية التأثر و ذلك في تصرف هذا البدوي الذي شعر على الرغم من جميع حواجز الغربة بصداقة رفيق عابر له في السفر فقاسمه الخبز حيث بدت في ذلك نفحة من الإنسانية أحس بها .
و بعد هنيهة يصل القطار غزة فتبدو غزة كقلعة قديمة تعيش حياتها آمنة مطمئنة على رابية رملية ينتشر من حولها نبات الصبار ......
و في هذه الأثناء يقوم رفيقه البدوي ليودعه بابتسامة لطيفة ثم يغادر العربة ساحباً ذيل عباءته الطويل و كان أول لقاءه بشخصين من البدو رحّبا به و طبعا قبلة على خديه ... و من ورائهما وقفت مجموعة من البدو احتراماً له مما يدل على أن له مكانة خاصة بينهم .
عراقة القدس:
ويصل إلى القدس فيقيم في بيت في طرف المدينة القديمة قرب " بوابة يافا " كانت غرفة رحبة ذات سقوف عالية تستقبل الهواء بشكل كامل أما شوارع المدينة فكانت ملتوية و أزقتها منحوتة من صخر وكان جدار الأقصى يبدو جلياً في ضخامته و اتساعه و كان الأقصى على حافته و قبة الصخرة في الوسط.
أما القلعة القديمة فكانت مرتفعة جداً حيث كانت جزءاً من الاستحكامات المدينة القديمة بنيت هكذا على الطراز العربي ربما على أسس هيرودية ذات برج عريض منخفض يمتد خلاله المدخل وجسد حجري يصل الخندق القديم بالبوابة و كان الجسر المقنطر ميداناً للبدو يجلسون عليه كلما قدموا للمدينة القديمة .
المفاجأة غير المتوقعة:
كان ذلك في خريف 1922م حين وصل إلى القدس و كان ليو يحمل فكرة يقرّبها لنا واضحة وهي أن فلسطين لا يسكنها إلا اليهود أما العرب فهم رُحّل يأتون على الجمال و يسكنون بيوتاً من شعر و خياماً فيمكثون في الصحراء فترات من الزمن ثم يرجعون إلى بلادهم في الجزيرة العربية موطنهم حيث أن أكثرهم سكان واحات ورعاة يعيشون في البادية ......
كانت تلك النظرة الملفقة البعيدة عن الواقع بسبب ما يقرؤه عن فلسطين هناك في بلاده مما يكتب بأقلام الصهاينة و تكون الدهشة كبيرة حينما تطأ قدماه أرض فلسطين حيث يفاجأ بالمدن مليئة بالعرب و أن فلسطين في الحقيقة بلد عربي و أن هؤلاء اليهود إنما هم أوربيون بدليل شقارتهم و عيونهم الزرقاء حسب قوله (2)
يذكّر هذا الموقف بما يقرره المفكر الفلسطيني الكبير إدوارد سعيد حين يقول بالحرف : (ذهبنا إلى صفد حيث اعتاد عمي أن يعيش في بلدة اعتدنا زيارتها و كان ذلك للمرة الأخيرة في عام (1946) و قد زرتها في عام (1992) أي بعد ستة و أربعين عاماً و لم أر فيها عربياً واحداً لقد طردوا منها جميعاً)
و حينما يرجع ادوارد إلى أمريكا يكتب مقالة عن الأمر فتنهال عليه الصحف في اليوم التالي مدّعية بعضها جنونه و بعضها كذبه و تزويره للحقيقة (3)
فكرة الوطن القومي المصطنعة:
و يؤكد ليو أن فكرة الوطن القومي اليهودي في فلسطين فكرة مصطنعة من أساسها و أنها وهذا ما كان أدهى و أمر – كانت تهدد بنقل جميع مشاكل الحياة الأوربية و تعقيداتها غير القابلة للحل إلى بلد كان يمكن أن ينعم بقدر أكبر من السعادة دونها .
إن اليهود لم يكونوا يعودون إلى فلسطين كما يعود المرء إلى وطنه و لكنهم كانوا مصممين على قلبها وطناً يهودياً على النمط الأوربي و بأهداف أوربية لذلك أدرك ليو من ذلك اليوم أن العرب كانوا على حق بدفاعهم عن أنفسهم ضد الخديعة (4)
بل إن المخالف للأخلاق و المروءة أن يأتي الأغراب تسندهم دولة أجنبية كبرى من الخارج وهم يصرّحون علناً بعزمهم على أن يصبحوا أكثرية في البلاد و ينتزعوا بالتالي ملكيتها من الشعب الذي كانت ملكاً له منذ عهد مغرق في القدم .
و يتطرق الرحالة إلى ما دار بينه و بين حاييم وايزمن زعيم الحركة الصهيونية في ذلك الوقت فيشير مستغرباً إلى أنه كان ميالاً إلى إلقاء كل الذنب عما يجري في فلسطين على سكانها الفلسطينيين.
و حينما يطرح عليه ليو السؤال : (و ماذا بالنسبة للعرب أليسوا أكثرية و هم يقاومون الآن ؟ يجيب : إننا نتوقع أن لا يعودوا أكثرية بعد بضع سنوات و يتهرب عن بقية الأسئلة المحرجة كالعادة ) (5)
الحياة العربية في القدس:
و يتحدث لنا ليو عن طبيعة الحياة في القدس و عن نمط عيش أهلها اليومي في فترة مهمة من تاريخ هذه المدينة العريقة فيسجل لنا تقريراً وافياً عن الدار التي نزل فيها حيث كان النزول في دار واسع الفناء لرجل عربي هرم يدعى ( حاجي ) كان قد جعل بيته نزلاً لمبيت القوافل ، فكان يؤتى بأحمال الخضار و الثمار إلى ذلك المكان ليتم توزيعها على الأسواق الضيقة في المدينة .
و حينما يأتي ليو على ذكر الناس الذين كانوا يرتادون ذلك الفناء يصفهم بقوله : كانوا فقراء لا تستر أجسادهم سوى ثياب رثة بالية و لكنهم كانوا يتصرفون كالسادة العظام ، فقد كانوا يجلسون معاً لتناول الطعام على الأرض و يأكلون أرغفة الخبز المنبسطة مع قليل من الجبن أو بعض حبات من الزيتون .. لم أكن أستطيع إلا أن أعجب بنبلهم و احتمالهم و هدوئهم الداخلي .. كانوا يحترمون بعضهم كثيراً و كان الحاجي يتجول بينهم على عصاه و كأنه زعيمهم فقد كانوا يطيعونه دون تردد......) (6)
لقد كان البيت العربي الحجري الذي نزل فيه ليو في القدس جميلاً يبعث على الانشراح كان يقع في طرف المدينة عند (بوابة يافا) و من السطح كانت تبدو المدينة القديمة هادئة وادعة ، فقد كانت القدس عالماً جديداً بالنسبة له حيث تنبعث الذكريات التاريخية من كل زاوية فالشرق كله تجسد ها هنا، الشوارع التي أصغت إلى موعظة النبي أشعيا ، و الأحجار التي مشى من فوقها المسيح عليه السلام والجدران التي رجعت أصوات خطو الجيوش الرومانية ، والأقواس التي تحمل نقوش صلاح الدين بل إن الصخرة التي طار من فوقها محمد (ص) إلى السماء قابعة هناك عند المسجد الأقصى ......
أما زرقة السماء فكانت تبدو كبحر ساكن هادئ كان هذا الجو البديع بالنسبة لهذا الشاب الأوربي لوحة ثمينة لا مثيل لها و لا تقدر بثمن.(7)
------------------
المراجـع:
(1) الطريق إلى الإسلام تأليف ليو بولد فايس دار العلم للملايين الطبعة الثامنة
يناير /1994م / تعريب : عفيف البعلبكي صفحة / 94/
(2) المرجع نفسه صفحة / 104/
(3) حوارات القلم والسيف مع دافيد بارسيمان – ادوارد سعيد ترجمة توفيق الأسدي
الطبعة : الثانية /1999م / الناشر : دار كنعان للدراسات و النشر- دمشق – صفحة /84/
(4) الطريق إلى الإسلام تأليف ليو بولد فايس صفحة /105/
(5) المرجع نفسه صفحة / 106-107 /
(6) المرجع نفسه صفحة / 100/
(7) المرجع نفسه صفحة / 101/
المصدر: عبد الباقي أحمد خلف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق