في نقض الرواية الصهيونية للنكبة الفلسطينية -1-
بقلم: ياسين عز الدين
يقولون أن المنتصر يكتب التاريخ، بمعنى أن روايته لما حصل هي التي تسود وتنتشر بين الناس بمن فيه المهزومين، وهذا ينطبق إلى حد كبير على التاريخ الفلسطيني المعاصر وبالتحديد حرب عام 1948م (نكبة فلسطين).
تقول الرواية الصهيونية أن سبعة جيوش عربية (مصر وسوريا والأردن والعراق ولبنان والسعودية وجيش الإنقاذ) بكامل عتادها وعدتها قررت الهجوم على الدولة الصهيونية الوليدة وحاولت سحقها، وطلبت من الفلسطينيين أن يتركوا منازلهم لكي يمهدوا للعمليات العسكرية، فانقلب "عدوانهم" على الكيان الصهيوني الوليد والضعيف هزيمة نكراء، وهرب أغلب الفلسطينيين من بيوتهم خوفًا وجزعًا واستجابة لطلب قادة الجيوش العربية.
ويهدف الصهاينة من هذه الرواية تبرئة أنفسهم فهم لم يطردوا أحدًا من مكانه ولم يرتكبوا إلا بضع مجازر معدودة على اليد الواحدة لإخافة الآخرين، وأيضًا ليقولوا أنهم انتصروا رغم ضعف عددهم وعدتهم وهذا دليل على التأييد السماوي لهم ولمشروعهم، وهنالك جانب آخر وهو تأكيدهم على دونية العرب الذين مهما تفوقوا بالعدد والعدة فإنهم لن يستفيدوا من ذلك، ولن يهزموا الصهاينة أبدًا.
وبكل أسف تبنى الكثير من العرب والفلسطينيين الرواية الصهيونية على علاتها وبكل ما فيها من تناقضات وأكاذيب فجة، واختلفوا عن الصهاينة فقط في تفسير سبب الهزيمة والنكبة فنسبوها إلى خيانة القادة العرب، وإن كنت أتفق معهم في وجود قيادات كثيرة تنطبق عليها هذه الصفة، إلا أن هذا التفسير يحمل الكثير من خداع الذات.
فالعرب لم يريدوا الاعتراف بأنهم هزموا وأحبوا قصة أنهم كانوا أقوياء لولا فلان وعلان من القادة، فالشعور بالضعف والعجز غير مرغوب، ففضلوا خداع ذاتهم، وكما يقولون الانتصار له ألف أب، والهزيمة لا أب لها، فهكذا حرص العرب جميعًا على إلقاء المسؤولية على حفنة من المسؤولين العرب كانوا بمثابة كبش فداء وعلى رأسهم الملك عبد الله الأول والذي اغتيل لاحقًا بسبب دوره في هزيمة حرب عام 1948م.
وأطيح بأغلب الأنظمة التي تسببت بالهزيمة وأزيح الأفراد الذي اتهموا بالخيانة، لكن لم ننتصر على الكيان الصهيوني، بل ازداد الكيان قوةً أضعافًا مضاعفة، وتلت النكبة نكسة ونكسات عديدة، وذلك لأننا لم نفهم طبيعة ما حصل في النكبة، وفضلنا تصديق أكذوبة أن كل شيء كان على ما يرام والانتصارات تتوالى لولا خيانة بعض القادة العرب.
ولذا أسعى هنا توضيح عدة حقائق معروفة للمؤرخين تنقض الرواية التاريخية الصهيونية، وترسم لنا صورة أكثر دقة لما حصل في حرب عام 1948م وما يعرف بنكبة فلسطين.
أولًا، الحرب لم تبدأ في 15/5/1948م:
لعل الشائع بين الناس أن الحرب بدأت بهذا التاريخ وهو تاريخ انتهاء الانتداب (أي الاحتلال) البريطاني ودخول الجيوش العربية، إلا أن الواقع يؤكد بأن الحرب بدأت قبل هذا التاريخ بكثير.
التحضير لهذه الحرب يعود للبدايات الأولى من الاحتلال البريطاني، وتحديدًا بداية العشرينات من القرن الماضي، فنقرأ لجابوتنسكي وهو يبشر بالخيار المسلح ضد الشعب الفلسطيني في مقالته الشهيرة "الجدار الحديدي نحن والعرب" عام 1923م.
ووجدنا الجماعات الصهيونية تحرص على إدخال السلاح وتخزينه منذ العشرينات، ولعل أحد الأحداث التي نبهت الشهيد عز الدين القسام للخطر الصهيوني هو انكشاف براميل متفجرات كان الصهاينة يحاولون تهريبها عبر ميناء حيفا.
وعمل البريطانيون على توفير الغطاء للتسلح الصهيوني من خلال حرس المستوطنات، كما أنشأوا الفيلق اليهودي في الجيش البريطاني، وقد حارب في الحرب العالمية الثانية واكتسب المقاتلون فيه الخبرة والتدريب الكافي لينضموا لاحقًا إلى العصابات الصهيونية في فلسطين.
فما أن جاء عام 1947م إلا والصهاينة يملكون ترسانة كبيرة من الأسلحة برعاية وتواطؤ بريطانيا في حين أن الفلسطيني كان ممنوع من امتلاك السلاح، وكان يحكم عليه بالإعدام لو ضبط بحوزته أي قطعة سلاح، وقد قمعت بشدة قبل ذلك بسنوات قليلة الثورة الفلسطينية الكبرى (1936 -1939) حيث قتل أو أعدم أغلب قادة الثوار (مثل عبد الرحيم الحاج محمد والشيخ فرحان السعدي ويوسف أبو درة).
فيمَ لم يكن حال القيادة السياسية الفلسطينية بأفضل حالًا حيث كان الحاج أمين الحسيني يعيش في المنافي منذ عام 1938م واستقر به المقام في مصر (بعد الحرب العالمية الثانية)، ولم يكن على تواصل مع الميدان داخل فلسطين، وقد كان بشخصيته الكارزماتية أبرز القادة السياسيين الوطنيين في ذلك الوقت.
ابتدأت الهجمات الصهيونية أواخر عام 1947م (بعد قرار التقسيم) عبر هجمات متفرقة كانت تشنها العصابات الصهيونية على القرى والمدن الفلسطينية، وكان يتم الرد عليها إلا أن مع مرور الوقت كان يتكشف حجم الاختلال الكبير في التسلح بين الجانبين.
وقد لجأت عصابتا الشتيرن والأرغون الصهيونيتين إلى أسلوب السيارات المفخخة مستهدفة الأسواق العربية والمقرات الحكومية التي تخدم السكان الفلسطينيين، ففجرت مقر الحكومة في يافا في كانون ثاني (شهر 1) عام 1948م،
ومع اقتراب موعد انتهاء الاحتلال البريطاني ارتفعت وتيرة الهجمات، وبدأت عصابة الهاجانا (وهي العصابة الصهيونية الأكبر والتي أصبحت نواة جيش الاحتلال) بتنفيذ عمليات عسكرية واسعة النطاق لاحتلال المدن والقرى الفلسطينية وطرد سكانها ضمن ما يعرف بالخطة دالت ابتداءً من آذار (شهر 3) 1948م.
كانت طبريا أول مدينة يتم احتلالها في 18/4/1948م، فيمَ احتلت حيفا في 22/4/1948م بعد قصف شديد للأحياء الفلسطينية فيها ثم ملاحقتهم بنيران البنادق والمدفعية حتى خرجوا عبر الميناء (وقتل أكثر من 300 من سكان المدينة أثناء هذه العملية)، وحين حاول بعض سكان المدينة اللجوء إلى معسكر للجيش البريطاني قرب الميناء رفض استقبالهم.
أما مدينة يافا أكبر المدن الفلسطينية وعاصمتها الاقتصادية (واليوم أكثر من 15% من اللاجئين الفلسطينيين هم من مدينة يافا)، فقد احتلت في 26/4/1948م وطرد سكانها بنفس الطريقة التي طرد بها سكان حيفا.
واحتلت صفد في 11/5/1948م، أما عكا فقد احتلت في 16/5/1948م بعد حصار دام حوالي ثلاثة أسابيع، أما القرى التي تعرض أهلها للتهجير خلال هذه الفترة فهي كثيرة ولست بصدد حصرها لكن أشير إلى مجزرة دير ياسين في 9/4/1948م وهي الأكثر شهرة لكنها ليست الوحيدة فقد ارتكبت خلال الحرب أكثر من سبعين مجزرة موثقة، كما أشير إلى مجزرة بلدة العباسية وطرد أهلها بمرحلة مبكرة جدًا في 13/12/1947م.
فكانت النتيجة أن أكثر من ثلث الشعب الفلسطيني قد تشرد قبل إعلان قيام "دولة إسرائيل" (14/5)، وقبل انتهاء الاحتلال البريطاني وبدء دخول الجيوش العربية (15/5)، ويشكل أولئك أكثر من نصف اللاجئين الفلسطينيين اليوم.
فكيف يضعون تاريخ بداية الحرب في 15/5 وقد تشرد قبلها كل هذه الأعداد، واحتلت أهم المدن الفلسطينية وعلى رأسها العاصمة الاقتصادية يافا؟
يتبع
بقلم: ياسين عز الدين
يقولون أن المنتصر يكتب التاريخ، بمعنى أن روايته لما حصل هي التي تسود وتنتشر بين الناس بمن فيه المهزومين، وهذا ينطبق إلى حد كبير على التاريخ الفلسطيني المعاصر وبالتحديد حرب عام 1948م (نكبة فلسطين).
تقول الرواية الصهيونية أن سبعة جيوش عربية (مصر وسوريا والأردن والعراق ولبنان والسعودية وجيش الإنقاذ) بكامل عتادها وعدتها قررت الهجوم على الدولة الصهيونية الوليدة وحاولت سحقها، وطلبت من الفلسطينيين أن يتركوا منازلهم لكي يمهدوا للعمليات العسكرية، فانقلب "عدوانهم" على الكيان الصهيوني الوليد والضعيف هزيمة نكراء، وهرب أغلب الفلسطينيين من بيوتهم خوفًا وجزعًا واستجابة لطلب قادة الجيوش العربية.
ويهدف الصهاينة من هذه الرواية تبرئة أنفسهم فهم لم يطردوا أحدًا من مكانه ولم يرتكبوا إلا بضع مجازر معدودة على اليد الواحدة لإخافة الآخرين، وأيضًا ليقولوا أنهم انتصروا رغم ضعف عددهم وعدتهم وهذا دليل على التأييد السماوي لهم ولمشروعهم، وهنالك جانب آخر وهو تأكيدهم على دونية العرب الذين مهما تفوقوا بالعدد والعدة فإنهم لن يستفيدوا من ذلك، ولن يهزموا الصهاينة أبدًا.
وبكل أسف تبنى الكثير من العرب والفلسطينيين الرواية الصهيونية على علاتها وبكل ما فيها من تناقضات وأكاذيب فجة، واختلفوا عن الصهاينة فقط في تفسير سبب الهزيمة والنكبة فنسبوها إلى خيانة القادة العرب، وإن كنت أتفق معهم في وجود قيادات كثيرة تنطبق عليها هذه الصفة، إلا أن هذا التفسير يحمل الكثير من خداع الذات.
فالعرب لم يريدوا الاعتراف بأنهم هزموا وأحبوا قصة أنهم كانوا أقوياء لولا فلان وعلان من القادة، فالشعور بالضعف والعجز غير مرغوب، ففضلوا خداع ذاتهم، وكما يقولون الانتصار له ألف أب، والهزيمة لا أب لها، فهكذا حرص العرب جميعًا على إلقاء المسؤولية على حفنة من المسؤولين العرب كانوا بمثابة كبش فداء وعلى رأسهم الملك عبد الله الأول والذي اغتيل لاحقًا بسبب دوره في هزيمة حرب عام 1948م.
وأطيح بأغلب الأنظمة التي تسببت بالهزيمة وأزيح الأفراد الذي اتهموا بالخيانة، لكن لم ننتصر على الكيان الصهيوني، بل ازداد الكيان قوةً أضعافًا مضاعفة، وتلت النكبة نكسة ونكسات عديدة، وذلك لأننا لم نفهم طبيعة ما حصل في النكبة، وفضلنا تصديق أكذوبة أن كل شيء كان على ما يرام والانتصارات تتوالى لولا خيانة بعض القادة العرب.
ولذا أسعى هنا توضيح عدة حقائق معروفة للمؤرخين تنقض الرواية التاريخية الصهيونية، وترسم لنا صورة أكثر دقة لما حصل في حرب عام 1948م وما يعرف بنكبة فلسطين.
أولًا، الحرب لم تبدأ في 15/5/1948م:
لعل الشائع بين الناس أن الحرب بدأت بهذا التاريخ وهو تاريخ انتهاء الانتداب (أي الاحتلال) البريطاني ودخول الجيوش العربية، إلا أن الواقع يؤكد بأن الحرب بدأت قبل هذا التاريخ بكثير.
التحضير لهذه الحرب يعود للبدايات الأولى من الاحتلال البريطاني، وتحديدًا بداية العشرينات من القرن الماضي، فنقرأ لجابوتنسكي وهو يبشر بالخيار المسلح ضد الشعب الفلسطيني في مقالته الشهيرة "الجدار الحديدي نحن والعرب" عام 1923م.
ووجدنا الجماعات الصهيونية تحرص على إدخال السلاح وتخزينه منذ العشرينات، ولعل أحد الأحداث التي نبهت الشهيد عز الدين القسام للخطر الصهيوني هو انكشاف براميل متفجرات كان الصهاينة يحاولون تهريبها عبر ميناء حيفا.
وعمل البريطانيون على توفير الغطاء للتسلح الصهيوني من خلال حرس المستوطنات، كما أنشأوا الفيلق اليهودي في الجيش البريطاني، وقد حارب في الحرب العالمية الثانية واكتسب المقاتلون فيه الخبرة والتدريب الكافي لينضموا لاحقًا إلى العصابات الصهيونية في فلسطين.
فما أن جاء عام 1947م إلا والصهاينة يملكون ترسانة كبيرة من الأسلحة برعاية وتواطؤ بريطانيا في حين أن الفلسطيني كان ممنوع من امتلاك السلاح، وكان يحكم عليه بالإعدام لو ضبط بحوزته أي قطعة سلاح، وقد قمعت بشدة قبل ذلك بسنوات قليلة الثورة الفلسطينية الكبرى (1936 -1939) حيث قتل أو أعدم أغلب قادة الثوار (مثل عبد الرحيم الحاج محمد والشيخ فرحان السعدي ويوسف أبو درة).
فيمَ لم يكن حال القيادة السياسية الفلسطينية بأفضل حالًا حيث كان الحاج أمين الحسيني يعيش في المنافي منذ عام 1938م واستقر به المقام في مصر (بعد الحرب العالمية الثانية)، ولم يكن على تواصل مع الميدان داخل فلسطين، وقد كان بشخصيته الكارزماتية أبرز القادة السياسيين الوطنيين في ذلك الوقت.
ابتدأت الهجمات الصهيونية أواخر عام 1947م (بعد قرار التقسيم) عبر هجمات متفرقة كانت تشنها العصابات الصهيونية على القرى والمدن الفلسطينية، وكان يتم الرد عليها إلا أن مع مرور الوقت كان يتكشف حجم الاختلال الكبير في التسلح بين الجانبين.
وقد لجأت عصابتا الشتيرن والأرغون الصهيونيتين إلى أسلوب السيارات المفخخة مستهدفة الأسواق العربية والمقرات الحكومية التي تخدم السكان الفلسطينيين، ففجرت مقر الحكومة في يافا في كانون ثاني (شهر 1) عام 1948م،
ومع اقتراب موعد انتهاء الاحتلال البريطاني ارتفعت وتيرة الهجمات، وبدأت عصابة الهاجانا (وهي العصابة الصهيونية الأكبر والتي أصبحت نواة جيش الاحتلال) بتنفيذ عمليات عسكرية واسعة النطاق لاحتلال المدن والقرى الفلسطينية وطرد سكانها ضمن ما يعرف بالخطة دالت ابتداءً من آذار (شهر 3) 1948م.
كانت طبريا أول مدينة يتم احتلالها في 18/4/1948م، فيمَ احتلت حيفا في 22/4/1948م بعد قصف شديد للأحياء الفلسطينية فيها ثم ملاحقتهم بنيران البنادق والمدفعية حتى خرجوا عبر الميناء (وقتل أكثر من 300 من سكان المدينة أثناء هذه العملية)، وحين حاول بعض سكان المدينة اللجوء إلى معسكر للجيش البريطاني قرب الميناء رفض استقبالهم.
أما مدينة يافا أكبر المدن الفلسطينية وعاصمتها الاقتصادية (واليوم أكثر من 15% من اللاجئين الفلسطينيين هم من مدينة يافا)، فقد احتلت في 26/4/1948م وطرد سكانها بنفس الطريقة التي طرد بها سكان حيفا.
واحتلت صفد في 11/5/1948م، أما عكا فقد احتلت في 16/5/1948م بعد حصار دام حوالي ثلاثة أسابيع، أما القرى التي تعرض أهلها للتهجير خلال هذه الفترة فهي كثيرة ولست بصدد حصرها لكن أشير إلى مجزرة دير ياسين في 9/4/1948م وهي الأكثر شهرة لكنها ليست الوحيدة فقد ارتكبت خلال الحرب أكثر من سبعين مجزرة موثقة، كما أشير إلى مجزرة بلدة العباسية وطرد أهلها بمرحلة مبكرة جدًا في 13/12/1947م.
فكانت النتيجة أن أكثر من ثلث الشعب الفلسطيني قد تشرد قبل إعلان قيام "دولة إسرائيل" (14/5)، وقبل انتهاء الاحتلال البريطاني وبدء دخول الجيوش العربية (15/5)، ويشكل أولئك أكثر من نصف اللاجئين الفلسطينيين اليوم.
فكيف يضعون تاريخ بداية الحرب في 15/5 وقد تشرد قبلها كل هذه الأعداد، واحتلت أهم المدن الفلسطينية وعلى رأسها العاصمة الاقتصادية يافا؟
يتبع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق