سيكولوجية الشائعات الأميركية، نماذج من الشائعات المسوقة في أميركا.- 3 -
نتابع: سيكولوجية الشائعات الأميركية، نماذج من الشائعات المسوقة في أميركا.
ومن أقدم الشائعات التي راجت في الولايات المتحدة مجموعة من الروايات حول الأطفال الشيطانيين.
وأول هذه الروايات المذكورة تدور حول طفل افترض أنه ولد لامرأة تدعى السيدة ليذر من ليدزيونيت في ولاية نيوجرزي في عام 1735 . وتقول الرواية إن السيدة لم تكن راضية بعيشها في الحياة. وأنها كانت أماً لإثني عشرطفلا وأنها لذلك دعت إبليس لأن يلعن حملها الثالث عشر. وتمضي الرواية قائلة إن الطفل نبتت له مع مرور الوقت أجنحة وذيل كذيل السحلية وحوافر ووجه كوجه الحصان. وكما يمكننا أن نتوقع فإن شيطان ليدز، المعروف أيضا باسم شيطان جرزي لا يموت. وكان يشاهد لسنوات عديدة في النواحي الجنوبية لنيو جرزي. وخاصة في المستنقعات في منطقة باينبارينز. وفي القرن التاسع عشر سرت شائعة مفادها أن أحد القضاة المحليين قد عقد صداقة مع ذلك الوحش. وكان الاثنان يتناولان طعام الإفطار سوية ويتباحثان في الشؤون السياسية. ويبدو أن ذلك الشيطان كان لا يزال حياً حتى عام 1966 وبصحة جيدة. فقد روى أحد جنود الولاية أنه شاهد أثر حافر أكبر من كف الإنسان، وقد أطلق هذا الكلام موجة جديدة من التكهنات حول ذلك الوحش الشيطاني. ويمكن تفسير بعض الشائعات القديمة أيضا بكونها انعكاسات للصور الخطية الأصلية وموت الأبرياء. وهي فكرة تتناقلها الأجيال المتعاقبة في تراثها وتشكل أحد الموضوعات التي تستمر في العيش في التراث والأساطير الشعبية.
ولقد سرت شائعة من هذا القبيل في الولايات المتحدة في أواخر عام 1969 تقول إن بول ماكارثي عضو فرقة البتلز الغنائية قتل في حادث سيارة وأن بديلا له أخذ مكانه. وسرت الشائعة كالبرق عبر البلاد وتناقلتها صحف الجامعات والأحاديث بين الطلاب تغذيها الهمزات والتلميحات. وتشبه شائعة ماكارثي أسطورة الإله الإغريقي ديو نيزيوس، الذي قيل إنه لقي مصرعه بعنف ثم أعيد إلى الحياة. هذا ويؤكد دارسو الكوارث أن المواقف الكارثية تنتج نوعا غريباً من الشائعات الدائرية التي تبدو في ظاهرها مثيرة للقلق ولكنها في الواقع قد تؤدي إلى خفضه. فالناس الذين يتجمعون مصادفة في أعقاب كارثة ما، مثلا قد يتناقلون بعض الشائعات التي يمكن أن تؤدي إلى التخفيف من القلق حول المشاكل المشتركة. فبعد الزلزال الذي حصل في الهند في عام 1934 مثلا سمع الناجون شائعات بوقوع كوارث أسوأ. ويفترض عالم النفس ليون فيستنفر في كتابه ( نظرية التفاوت المعرفي ) أن الشائعات ساعدت في تخفيض التفاوت العاطفي الناجم عن شعورهم بالذنب لبقائهم على قيد الحياة بعد الزلزال. ويمكننا القول بأن إعطاء الناجين من الزلزال شائعات ترعبهم فإن هذه الشائعات سوف تساعد في صرف انتباههم عن القلق الذي ينتابهم لكونهم نجوا من الكارثة بينما هلك أصدقاؤهم وأقرباؤهم. وبما أن الشائعات تفسر الأحداث وبذلك تخفف من التوتر الذي ينجم عادة عن الغموض، فهي تنتعش في أجواء السرية والتنافس. ويعلم العاملون في المكاتب مثلا، كيف تسري الشائعات بسرعة عبر ممرات المكاتب عندما يستلم رئيس جديد أو عندما تنتقل المكاتب إلى بناء آخر...الخ. والشيء نفسه يحصل عندما يتفاوض رؤساء الدول فتنتج المفاوضات طوفاناً من الشائعات عن سير المفاوضات.
ونعطي مثالاً على ذلك شائعة عالمية خطيرة سرت عام 1977 عندما ألقي القبض في موسكو على المراسل الصحفي الأميركي روبرت توث من صحيفة لوس أنجلس تايمز بتهمة الحصول على أسرار رسمية حول الأبحاث السوفيتية في حقل الإدراك الحسي. وعقب ذلك نشرت صحيفة نيويورك تايمز مقالاً في صفحتها الأولى ألمحت فيه إلى احتمال وجود علاقة بين حادثة إلقاء القبض على المراسل وبين تصريح أدلى به رئيس الحزب الشيوعي السوفياتي بريجينيف ( أشار فيه إلى سلاح جديد غامض أكثر هولاً من أي سلاح عرفه العالم حتى الآن. وهناك دليل على أن بريجينيف كان يشير إلى الأبحاث حول الإدراك فوق الحسي). ولكن بالنظر إلى العلاقة السوفياتية الأميركية المتوترة في ذلك الحين. فإن تصريح بريجنيف كان غامضاً بما فيه الكفاية ليطلق شائعات مفادها أن الاتحاد السوفياتي هو في سبيله للتحضير لشيء ما يمكن تسميته ب " حرب العقل ". وقد تختفي مثل هذه الشائعات لسنوات ثم تظهر في يوم ما وتجتاح البلاد.
ومن الأمثلة المثيرة على مثل هذه القصص قصة مزحة الملفوف الكبرى. وهي شائعة انطلقت في واشنطن في الأربعينيات من القرن الماضي كردة فعل على حملة ضبط الأسعار خلال الحرب العالمية الثانية. وتقول القصة إن مكتب ضبط الأسعار أصدر مذكرة حول تحديد أسعار الملفوف. ولم يكن هناك شيء غير عادي في المذكرة سوى أن المذكرة كانت تتألف من 26911 كلمة. وانتشرت قصة المذكرة في الأوساط الحكومية لفترة من الزمن مسببة الإحراج الذي سببته لأهل البيروقراطية الإدارية ثم اختفت وعادت القصة إلى الظهور عام 1951 في مؤتمر عقدته رابطة صانعي الألبسة الجنوبية، عندما قدم عريف المؤتمر مدير مكتب تثبيت الأسعار وقال مازحاً أن خطاب غيتيسبيرغ كان يتألف من 2997 كلمة وكانت الوصايا العشر تتألف من 266 كلمة. وتضمن إعلان الاستقلال 1348 كلمة بينما تضمنت مذكرة مكتب تثبيت الأسعار 26911 كلمة. وظهرت القصة خلال الأشهر التالية في عشرات الصحف مع بعض التحريف أحيانا. فقد قالت بعض الصحف أن مكتب تثبيت الأسعار أصدر مذكرة من 26911 كلمة لضبط أسعار أبواق الضباب. وقد عاشت كلتا الروايتان عن مذكرة الملفوف لبضع سنوات ثم اختفت لتعاود الظهور في نيسان 1988 عندما عادت الشائعة إلى ظهور ثانية. وكان ظهورها هذه المرة في إعلان لشركة موبيل نشر في صحف مشهورة ويظهر في الإعلان شكل كرتوني يدعى بابيلدني بيت وهو يعد كلمات الصلاة وخطاب غيتيسبرغ وإعلان الاستقلال ثم تساءل كيف إذن تحتاج الحكومة الاتحادية إلى 26911 كلمة لتصدر مذكرة لضبط أسعار الملفوف؟!.
وكان للصحافة دورها إذ ذكر والتر كرونمكايت، الرواية في نشرة الأخبار المسائية في أحد التلفزيونات المحلية التابعة لشبكة سي بي أس، وفي هذه المرة اتخذت الشائعة أبعاداً دولية ومرت بتحول جديد. وقد نقلت جريدة لندن كلاماً لأحد الخطباء في مؤتمر غذائي جاء فيه " إن في الصلاة 56 كلمة وفي الوصايا العشر 297 وفي إعلان الإستقلال الأميركي 300 كلمة أما في التوجيه الإداري للسوق الأوروبية المشتركة حول تصدير بيض البط فهناك 26911 كلمة.
إن هذا النط الدائري لشائعة الملفوف يعكس المد والجزر في الحيرة والقلق اللذان ينتابان المجتمع الأميركي. فحيثما يكون هناك شعور بالقلق من الحكومة وحيرة حول نواياها ومصداقيتها تعود الشائعة إلى الظهور وهذا ما حصل بعد فضيحة ووترغيت. حيث قصة الملفوف تعزز المخاوف القديمة من عدم كفاءة الأجهزة الحكومية ومن الأسلوب البيروقراطي في إصدار التعليمات ذات الكلمات الجوفاء الغامضة وتكرار سماع الشائعة يعزز إمكانية تصديقها في بداية الأمر، ولكن هذا التكرار يؤدي إلى عكس ذلك عندما تنخفض حدة الحيرة والقلق. وعندما يصل القلق إلى نقطة دنيا تختفي الشائعة ولكن مؤقتا.
في العادة تتراجع الشائعات عندما يصبح المجهول معلوماً وتزول أسباب الغموض. ولكن المواضيع والأفكار العميقة المتضمنة في بعض الشائعات تبدو كأنها لا تموت وهي تصبح جزءا من البنية الاعتقادية للمجتمع وانعكاساً لما يشغل بال الناس ولما يحلمون به. إن طرفة الملفوف شائعة حديثة العهد نسبياً ولكن أمثالها من الشائعات تعمر طويلا. ومن المحتمل أن تعيش طالما كان هناك بيروقراطيون وكان توماس كارلايل وقد وصف التاريخ بأنه عملية تقطير للشائعات : وإن أوهامنا تتفاعل مع احتياجاتنا وآمالنا وينتج عن هذا التفاعل ظروف خصبة تعيش فيها الشائعات التي تنتشر الآن بسرعة أكبر من ذي قبل بواسطة الراديو والتلفزيون ووسائل الإعلام المتطورة. فحينما يتم الإبلاغ عن مشاهدة صحن طائر مجهول الهوية في مكان ما من البلاد نجد أن ذلك ينتج سلسلة من البلاغات عن مشاهدات مماثلة في أنحاء أخرى. وعندما يصل الناس في نفاذ الصبر من البيروقراطية الحكومية إلى حد ما تعود قصة الملفوف إلى الظهور من جديد وتأخذ الصحف والتلفزيون والراديو في نقلها من أقصى البلاد إلى أقصاها في ظرف ساعات معدودة.
إن فعالية وسائل الأعلام قد أوجدت طاحونة شائعات متمادية من شأنها إما أن تقرب الناس من بعضهم البعض أو ترفع من حدة قلقهم وأوهامهم وفي كلتا الحالتين نجد أن تكرار الشائعات التي لها جذور ممتدة في القرون الماضية يرينا أن الناس لم يتغيروا كثيرا عبر التاريخ. قد تكون أساليب حياتهم مختلفة الآن عما مضى إلا أن قلقهم وأوهامهم لا تزال كما هي. خاصة بعد أن تحول العالم الى صراعات أكثر مثاراً للقلق وبعد أن اضيفت عوامل اجتماعية وبيئية ( ثقب الآوزون) وسياسية كمصادر جدية للقلق...
المصدر: د. محمد احمد النابلسي
انتهى
ومن أقدم الشائعات التي راجت في الولايات المتحدة مجموعة من الروايات حول الأطفال الشيطانيين.
وأول هذه الروايات المذكورة تدور حول طفل افترض أنه ولد لامرأة تدعى السيدة ليذر من ليدزيونيت في ولاية نيوجرزي في عام 1735 . وتقول الرواية إن السيدة لم تكن راضية بعيشها في الحياة. وأنها كانت أماً لإثني عشرطفلا وأنها لذلك دعت إبليس لأن يلعن حملها الثالث عشر. وتمضي الرواية قائلة إن الطفل نبتت له مع مرور الوقت أجنحة وذيل كذيل السحلية وحوافر ووجه كوجه الحصان. وكما يمكننا أن نتوقع فإن شيطان ليدز، المعروف أيضا باسم شيطان جرزي لا يموت. وكان يشاهد لسنوات عديدة في النواحي الجنوبية لنيو جرزي. وخاصة في المستنقعات في منطقة باينبارينز. وفي القرن التاسع عشر سرت شائعة مفادها أن أحد القضاة المحليين قد عقد صداقة مع ذلك الوحش. وكان الاثنان يتناولان طعام الإفطار سوية ويتباحثان في الشؤون السياسية. ويبدو أن ذلك الشيطان كان لا يزال حياً حتى عام 1966 وبصحة جيدة. فقد روى أحد جنود الولاية أنه شاهد أثر حافر أكبر من كف الإنسان، وقد أطلق هذا الكلام موجة جديدة من التكهنات حول ذلك الوحش الشيطاني. ويمكن تفسير بعض الشائعات القديمة أيضا بكونها انعكاسات للصور الخطية الأصلية وموت الأبرياء. وهي فكرة تتناقلها الأجيال المتعاقبة في تراثها وتشكل أحد الموضوعات التي تستمر في العيش في التراث والأساطير الشعبية.
ولقد سرت شائعة من هذا القبيل في الولايات المتحدة في أواخر عام 1969 تقول إن بول ماكارثي عضو فرقة البتلز الغنائية قتل في حادث سيارة وأن بديلا له أخذ مكانه. وسرت الشائعة كالبرق عبر البلاد وتناقلتها صحف الجامعات والأحاديث بين الطلاب تغذيها الهمزات والتلميحات. وتشبه شائعة ماكارثي أسطورة الإله الإغريقي ديو نيزيوس، الذي قيل إنه لقي مصرعه بعنف ثم أعيد إلى الحياة. هذا ويؤكد دارسو الكوارث أن المواقف الكارثية تنتج نوعا غريباً من الشائعات الدائرية التي تبدو في ظاهرها مثيرة للقلق ولكنها في الواقع قد تؤدي إلى خفضه. فالناس الذين يتجمعون مصادفة في أعقاب كارثة ما، مثلا قد يتناقلون بعض الشائعات التي يمكن أن تؤدي إلى التخفيف من القلق حول المشاكل المشتركة. فبعد الزلزال الذي حصل في الهند في عام 1934 مثلا سمع الناجون شائعات بوقوع كوارث أسوأ. ويفترض عالم النفس ليون فيستنفر في كتابه ( نظرية التفاوت المعرفي ) أن الشائعات ساعدت في تخفيض التفاوت العاطفي الناجم عن شعورهم بالذنب لبقائهم على قيد الحياة بعد الزلزال. ويمكننا القول بأن إعطاء الناجين من الزلزال شائعات ترعبهم فإن هذه الشائعات سوف تساعد في صرف انتباههم عن القلق الذي ينتابهم لكونهم نجوا من الكارثة بينما هلك أصدقاؤهم وأقرباؤهم. وبما أن الشائعات تفسر الأحداث وبذلك تخفف من التوتر الذي ينجم عادة عن الغموض، فهي تنتعش في أجواء السرية والتنافس. ويعلم العاملون في المكاتب مثلا، كيف تسري الشائعات بسرعة عبر ممرات المكاتب عندما يستلم رئيس جديد أو عندما تنتقل المكاتب إلى بناء آخر...الخ. والشيء نفسه يحصل عندما يتفاوض رؤساء الدول فتنتج المفاوضات طوفاناً من الشائعات عن سير المفاوضات.
ونعطي مثالاً على ذلك شائعة عالمية خطيرة سرت عام 1977 عندما ألقي القبض في موسكو على المراسل الصحفي الأميركي روبرت توث من صحيفة لوس أنجلس تايمز بتهمة الحصول على أسرار رسمية حول الأبحاث السوفيتية في حقل الإدراك الحسي. وعقب ذلك نشرت صحيفة نيويورك تايمز مقالاً في صفحتها الأولى ألمحت فيه إلى احتمال وجود علاقة بين حادثة إلقاء القبض على المراسل وبين تصريح أدلى به رئيس الحزب الشيوعي السوفياتي بريجينيف ( أشار فيه إلى سلاح جديد غامض أكثر هولاً من أي سلاح عرفه العالم حتى الآن. وهناك دليل على أن بريجينيف كان يشير إلى الأبحاث حول الإدراك فوق الحسي). ولكن بالنظر إلى العلاقة السوفياتية الأميركية المتوترة في ذلك الحين. فإن تصريح بريجنيف كان غامضاً بما فيه الكفاية ليطلق شائعات مفادها أن الاتحاد السوفياتي هو في سبيله للتحضير لشيء ما يمكن تسميته ب " حرب العقل ". وقد تختفي مثل هذه الشائعات لسنوات ثم تظهر في يوم ما وتجتاح البلاد.
ومن الأمثلة المثيرة على مثل هذه القصص قصة مزحة الملفوف الكبرى. وهي شائعة انطلقت في واشنطن في الأربعينيات من القرن الماضي كردة فعل على حملة ضبط الأسعار خلال الحرب العالمية الثانية. وتقول القصة إن مكتب ضبط الأسعار أصدر مذكرة حول تحديد أسعار الملفوف. ولم يكن هناك شيء غير عادي في المذكرة سوى أن المذكرة كانت تتألف من 26911 كلمة. وانتشرت قصة المذكرة في الأوساط الحكومية لفترة من الزمن مسببة الإحراج الذي سببته لأهل البيروقراطية الإدارية ثم اختفت وعادت القصة إلى الظهور عام 1951 في مؤتمر عقدته رابطة صانعي الألبسة الجنوبية، عندما قدم عريف المؤتمر مدير مكتب تثبيت الأسعار وقال مازحاً أن خطاب غيتيسبيرغ كان يتألف من 2997 كلمة وكانت الوصايا العشر تتألف من 266 كلمة. وتضمن إعلان الاستقلال 1348 كلمة بينما تضمنت مذكرة مكتب تثبيت الأسعار 26911 كلمة. وظهرت القصة خلال الأشهر التالية في عشرات الصحف مع بعض التحريف أحيانا. فقد قالت بعض الصحف أن مكتب تثبيت الأسعار أصدر مذكرة من 26911 كلمة لضبط أسعار أبواق الضباب. وقد عاشت كلتا الروايتان عن مذكرة الملفوف لبضع سنوات ثم اختفت لتعاود الظهور في نيسان 1988 عندما عادت الشائعة إلى ظهور ثانية. وكان ظهورها هذه المرة في إعلان لشركة موبيل نشر في صحف مشهورة ويظهر في الإعلان شكل كرتوني يدعى بابيلدني بيت وهو يعد كلمات الصلاة وخطاب غيتيسبرغ وإعلان الاستقلال ثم تساءل كيف إذن تحتاج الحكومة الاتحادية إلى 26911 كلمة لتصدر مذكرة لضبط أسعار الملفوف؟!.
وكان للصحافة دورها إذ ذكر والتر كرونمكايت، الرواية في نشرة الأخبار المسائية في أحد التلفزيونات المحلية التابعة لشبكة سي بي أس، وفي هذه المرة اتخذت الشائعة أبعاداً دولية ومرت بتحول جديد. وقد نقلت جريدة لندن كلاماً لأحد الخطباء في مؤتمر غذائي جاء فيه " إن في الصلاة 56 كلمة وفي الوصايا العشر 297 وفي إعلان الإستقلال الأميركي 300 كلمة أما في التوجيه الإداري للسوق الأوروبية المشتركة حول تصدير بيض البط فهناك 26911 كلمة.
إن هذا النط الدائري لشائعة الملفوف يعكس المد والجزر في الحيرة والقلق اللذان ينتابان المجتمع الأميركي. فحيثما يكون هناك شعور بالقلق من الحكومة وحيرة حول نواياها ومصداقيتها تعود الشائعة إلى الظهور وهذا ما حصل بعد فضيحة ووترغيت. حيث قصة الملفوف تعزز المخاوف القديمة من عدم كفاءة الأجهزة الحكومية ومن الأسلوب البيروقراطي في إصدار التعليمات ذات الكلمات الجوفاء الغامضة وتكرار سماع الشائعة يعزز إمكانية تصديقها في بداية الأمر، ولكن هذا التكرار يؤدي إلى عكس ذلك عندما تنخفض حدة الحيرة والقلق. وعندما يصل القلق إلى نقطة دنيا تختفي الشائعة ولكن مؤقتا.
في العادة تتراجع الشائعات عندما يصبح المجهول معلوماً وتزول أسباب الغموض. ولكن المواضيع والأفكار العميقة المتضمنة في بعض الشائعات تبدو كأنها لا تموت وهي تصبح جزءا من البنية الاعتقادية للمجتمع وانعكاساً لما يشغل بال الناس ولما يحلمون به. إن طرفة الملفوف شائعة حديثة العهد نسبياً ولكن أمثالها من الشائعات تعمر طويلا. ومن المحتمل أن تعيش طالما كان هناك بيروقراطيون وكان توماس كارلايل وقد وصف التاريخ بأنه عملية تقطير للشائعات : وإن أوهامنا تتفاعل مع احتياجاتنا وآمالنا وينتج عن هذا التفاعل ظروف خصبة تعيش فيها الشائعات التي تنتشر الآن بسرعة أكبر من ذي قبل بواسطة الراديو والتلفزيون ووسائل الإعلام المتطورة. فحينما يتم الإبلاغ عن مشاهدة صحن طائر مجهول الهوية في مكان ما من البلاد نجد أن ذلك ينتج سلسلة من البلاغات عن مشاهدات مماثلة في أنحاء أخرى. وعندما يصل الناس في نفاذ الصبر من البيروقراطية الحكومية إلى حد ما تعود قصة الملفوف إلى الظهور من جديد وتأخذ الصحف والتلفزيون والراديو في نقلها من أقصى البلاد إلى أقصاها في ظرف ساعات معدودة.
إن فعالية وسائل الأعلام قد أوجدت طاحونة شائعات متمادية من شأنها إما أن تقرب الناس من بعضهم البعض أو ترفع من حدة قلقهم وأوهامهم وفي كلتا الحالتين نجد أن تكرار الشائعات التي لها جذور ممتدة في القرون الماضية يرينا أن الناس لم يتغيروا كثيرا عبر التاريخ. قد تكون أساليب حياتهم مختلفة الآن عما مضى إلا أن قلقهم وأوهامهم لا تزال كما هي. خاصة بعد أن تحول العالم الى صراعات أكثر مثاراً للقلق وبعد أن اضيفت عوامل اجتماعية وبيئية ( ثقب الآوزون) وسياسية كمصادر جدية للقلق...
المصدر: د. محمد احمد النابلسي
انتهى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق