فلسطين عبر التاريخ، الانتداب البريطاني
برزت الحركة الصهيونية التي انتشرت بين يهود أوروبا في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، ولفظ "الصهيونية " مشتق من كلمة "تسيون" العبرية، وهي اسم لجبل يقع جنوبي غربي القدس "جبل صهيون" يحج إليه اليهود لاعتقادهم أن الملك داوود دفن هناك.
من المعروف أن اليهود في تلك الفترة وما قبلها كانوا عبارة عن تجمعات يهودية منتشرة في أنحاء العالم، وهي تجمعات لا تجمعها أي روابط سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو تراثية سوى الرابطة الدينية، ويرجع ذلك إلى ذوبان هذه التجمعات في المجتمعات التي كانت تعيش فيها، وكذلك فإن الدعوى الصهيونية بوجود "قومية يهودية" لا تعدو كونها بدعة مختلقة لأن هذه التجمعات كانت تفتقر إلى عناصر القومية مثل الشعب الموحد، والرقعة الإقليمية من الأرض التي يقيم عليها واللغة والعادات والتقاليد المشتركة.
وعد بلفور:
نضجت الفكرة الصهيونية في المناخ الحضاري الأوروبي منذ القرن السادس عشر الميلادي، وترعرعت في الأجواء السياسية التي سادت أوروبا في القرن التاسع عشر (أجواء الإمبريالية) وتحديداً بعد عام (1870م). وقامت الفكرة الصهيونية على أساس إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين بعد أن تمت الصفقة بين الحركة الصهيونية والاستعمار البريطاني على أساس "وعد بلفور" الشهير في 2 تشرين ثاني/ نوفمبر عام (1917م) والذي جاء نصه:
"وزارة الخارجية
2 تشرين الثاني/ نوفمبر(1917م)
عزيزي اللورد روتشيلد:
يسرني جداً أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة جلالة الملك التصريح التالي الذي ينطوي على العطف على أماني اليهود الصهيونية وقد عرض على الوزارة وأقرته.
إن حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية على أن يفهم جلياً أنه لن يؤتي بعمل من شأنه الإخلال بالحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين ولا بالحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلاد الأخرى.
وسأكون شاكراً لو تكرمتم بإحاطة الاتحاد الصهيوني علماً بهذا التصريح.
المخلص
آرثر جميس بلفور"
ويوضح هذا التصريح التزام الحكومة البريطانية آنذاك بدعم المطامع الصهيونية في أرض فلسطين العربية ضد إرادة أصحابها الشرعيين، وكان هذا التصريح يمثّل إعطاء حق من كان لا يملك لمن لا يستحق.
وعندما نجحت الجيوش البريطانية بدخول البلاد من خلال اللجوء إلى الخدعة، استُقبلت استقبالاً حاراً بوصفها محرِرة لا محتلة، وبعد وصول اللجنة الصهيونية شعر العرب بنذر الخطر، وكانت الحكومة البريطانية قد وافقت على إرسالها لفلسطين على أساس "أن تنجز أي خطوات تستدعيها مقتضيات تنفيذ تصريح الحكومة بشأن إقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، ضمن الخضوع لسلطة الجنرال البريطاني أللنبي، وفي نفس الوقت تهدئة شكوك العرب بشأن النوايا الحقيقية للصهيونية".
وكذلك عملت الإدارة العسكرية المحتلة على تهيئة فلسطين بالتدريج لتصبح وطناً قومياً للصهيونيين بكافة الوسائل والأساليب الممكنة.
إن ما حدث في فلسطين بعد قدوم اللجنة الصهيونية يعتبر أمراً لا يحتمل التصديق وذلك بالعمل على إنشاء وطن قومي لليهود في بلد يتجاوز سكانه 92% من العرب الفلسطينيين.
1923-1948م: الانتداب البريطاني على فلسطين:
في بداية هذه الفترة تناولت بريطانيا صك الانتداب الفلسطيني لإدارة البلاد وفقاً لميثاق عصبة الأمم، في حين لم تكن بريطانيا بحاجة إلى البدء بتنفيذ بنود هذا الصك لأنها عملياً كانت قد باشرت سلطاتها على فلسطين قبل ذلك، بسنوات طبقاً لسياستها الاستعمارية الصهيونية المعتمدة بشكل رئيسي على الإكراه وقوة السلاح حتى عام 1948م.
وخلال هذه الفترة لم تتقدم المؤسسات في البلاد، وبذلك توجب على العرب الفلسطينيين أن يرفعوا بشكواهم إلى لجنة الانتدابات الدائمة في جنيف التابعة لعصبة الأمم، ولكن اللجنة لم تكن تملك حق التفتيش والمتابعة في البلدان المنتدبة، فما كان من المواطنين العرب على مدار فترة الانتداب إلا الاحتجاج والمقاومة وإقامة المظاهرات والتمرد والعصيان المدني والذي أدى إلى صدام عنيف مع قوات الجيش البريطاني والمستوطنين اليهود.
وفي عام (1924م) وضع المندوب السامي "هربرت صموئيل" مشروع نقد فلسطيني جديد، وصدر مرسوم النقد الفلسطيني في شباط/ فبراير (1927م) وسط اتهامات الشعب بأن الحكومة لا تستطيع أن تصدر منه ما تشاء دون مراقبة، لأن ذلك سيلحق الضرر بالاقتصاد العربي، كما أتت جهود المندوب السامي ثمارها في إصدار قانون الجنسية الفلسطينية بقصد منح اليهود المقيمين في البلاد الجنسية الفلسطينية.
وأجابت الحكومة البريطانية وخلال دورتين متتابعتين لاجتماع عصبة الأمم (1924-1925م) صراحة بأنها لا توافق على تأسيس مجلسٍ تشريعي في فلسطين يقوم على أساس التمثيل النسبي، والذي من الطبيعي أن تكون الأغلبية الساحقة فيه للعرب الفلسطينيين، خاصةً أن ذلك يقف عقبة في قيام الحكومة بالواجبات الملقاة على عاتقها في إنشاء وطن قومي لليهود.
بعد نهاية فترة المندوب السامي "هربرت صموئيل"، عين اللورد "هربرت تشارلز بلومر" مندوباً سامياً لفلسطين في (25آب/ أغسطس 1925م)، وبقي في منصبه ثلاثة أعوام.
وفي آذار/ مارس (1925م) قام "بلفور" بزيارة للقدس للمشاركة في افتتاح الجامعة العبرية التي شيدت على أرض عربية فوق جبل الزيتون كانت السلطات البريطانية قد انتزعتها عام(1918م) من أصحابها بالقوة وأعطيت للصهيونيين، وأعلنت البلاد إضراباً عاماً احتجاجاً على زيارة بلفور، فقامت هناك مظاهرات كبيرة ضده، وهو ما حمل السلطات البريطانية على إخراجه إلى بيروت حيث ركب الباخرة ليعود إلى بلاده.
وخلال العشر سنوات الأولى من الانتداب البريطاني دخل فلسطين، ما يقارب (76400) مهاجر يهودي جاء غالبيتهم من بلدان أوروبا الشرقية، ومع نشاط الهجرة المتزايد إلى فلسطين أدرك العرب ضرورة مقاومة الصهيونية وتحيز السلطات لها، فتفجرت الثورة التي كان شرارتها هي حادثة البراق في (24 أيلول/ سبتمبر 1928م)، حيث حاول اليهود الاستيلاء على الجدار الغربي للمسجد الأقصى الذي يملكه المسلمون، وهو ما أسفر عن حشد التأييد العربي للقضية الفلسطينية من الأقطار العربية، وكانت بداية ما عُرف بثورة البراق التي شهدت أحداث دامية كان على أثرها مداهمة العرب للتجمعات اليهودية في الخليل ونابلس وبيسان وصفد، وحينها هبت القوات البريطانية للدفاع عن اليهود، مستخدمةً أقصى درجات القمع ضد المتظاهرين العرب، واستنجدت بقوات من مصر واستخدمت الطائرات وقوات المشاة والمدرعات إضافةً لإطلاق النار المباشر، وألحقت الدمار بقريتي لفتا ودير ياسين وغيرهما، وقدم للمحاكمة ما يزيد على الألف شخص معظمهم من العرب، كما صدر الحكم بإعدام (26) شخصاً بينهم (25) عربياً ويهودي واحد.
وفي عام (1930م) وصل عدد المهاجرين اليهود إلى (104.750)، ووصل خلال الستة أعوام التالية إلى (284.645) أي بزيادة تعادل (164 %)، وهذه الأرقام لا تتضمن الأعداد التي دخلت البلاد بطرق غير شرعية.
في ليلة الإسراء والمعراج بتاريخ (27 رجب 1350هـ) الموافق (7كانون أول/ ديسمبر 1931م) عقد مؤتمر إسلامي حضره ممثلون عن اثنين وعشرين بلداً إسلامياً، ولفيف من الشخصيات البارزة في العالم العربي، وخلال افتتاحية المؤتمر أكد المفتي "محمد أمين الحسيني" على أهمية فلسطين والأقصى في العالم الإسلامي كما أكد المؤتمر شجبه للصهيونية و السياسة البريطانية في فلسطين والهجرة اليهودية إليها، وكان من قرارات المؤتمر إنشاء جامعة إسلامية في القدس ومقاطعة جميع المصنوعات الصهيونية في الأقطار الإسلامية وتأسيس شركة زراعية في فلسطين لإنقاذ أراضي المسلمين.
في (13 تموز/ يوليو 1931م) صدر بلاغ رسمي بتعيين الجنرال "آرثر غرنفيل" (واكهوب) مندوباً سامياً لفلسطين، ووصل (واكهوب) إلى فلسطين يحمل تعليمات بوجوب تعزيز مسألة الوطن القومي لليهود والعمل بأسلوب التسويف والمماطلة مع طلبات العرب، والوصول إلى أكثرية سكانية يهودية في فلسطين مع طرح بعض المشاريع الوهمية لإشغال العرب بها.
في (4 آب/ أغسطس 1932م) صدر بيان تأسيس حزب الاستقلال الذي تعهد بالكفاح ضد الاستعمار ومحاربة الهجرة اليهودية والعمل على تحقيق الوحدة العربية، وكرر الاستقلاليون رفضهم لوعد بلفور والانتداب، وكشفوا عن أساس التحالف القائم بين الصهيونية والاستعمار البريطاني، وأكدوا على أن ثلث ميزانية البلاد مخصص لشؤون الدفاع والأمن بسبب محاولة الحكومة بناء وطن قومي أجنبي خلافاً لإرادة الفلسطينيين. وفي مطلع (1932م) عقد مؤتمر للشباب الفلسطيني في يافا للنظر في تجنيد الشباب لخدمة الحركة الوطنية.
في نهاية العام (1934م) باعتراف لجنة "بل" بلغ عدد المهاجرين اليهود نحو (42.359) مقابل (30327) عام (1933م) و(9553) عام (1932م). وفي نهاية عام (1935م) بلغ رقم الهجرة اليهودية (61854) يهودياً وفدوا إلى فلسطين من شتى أرجاء أوروبا، كما دلت الإحصائيات الرسمية على أنه بحلول عام (1935م) أصبح عدد اليهود في فلسطين ضعفي ما كان في (1929م) بحيث غدا اليهود يمثلون ربع جملة السكان.
ثورة الشيخ عز الدين القسام:
أيقن الانتداب البريطاني خطورة الموقف في فلسطين بعدما شهدت البلاد ثورة الشيخ عز الدين القسام الذي كان قد وهب نفسه هو وثلة من المجاهدين للدفاع عن أرض فلسطين، حيث استشهد في أحراش يعبد قرب جنين بعد صدامه في موقعة عسكرية مع جنود من جيش الانتداب، وبعد هذه الحادثة مباشرة أوعزت بريطانيا إلى مندوبها السامي "واكهوب" بعد شهر واحد من استشهاد القسام ليقوم بطرح مشروع المجلس التشريعي على العرب واليهود جواباً على المطالب التي قدمتها لجنة الأحزاب الفلسطينية في تشرين الثاني/ نوفمبر والذي جاء فيه:
1- إن عرض الحكومة في كانون الأول/ ديسمبر (1935م) لمشروع دستور جديد كان يمثل خطوة عملية نحو الحكم الديمقراطي حين اقترح مجلساً تشريعياً بغالبية غير رسمية كبيرة.
2- بخصوص بيع الأراضي: عزمت الحكومة على سن قانون يمنع بيع الأراضي إلا إذا كان المالك العربي قد احتفظ بقطعة من الأرض تكفي احتياجات أسرة.
3- جرى قياس لمعدل الهجرة اليهودية بعناية وفقاً لمقدرة البلاد الاستيعابية، وقد أنشئ مكتب إحصائي جديد لتقدير هذا المعدل.
ثورة (1936م) الكبرى ومشروع التقسيم:
انطلقت الثورة في شباط /فبراير (1936م) من حادثة صغيرة وكانت الشرارة التي ألهبت مشاعر العرب الفلسطينيين، حيث عبرت عن عدم القدرة على احتمال المزيد، فبدأت هذه الثورة عندما رفض مقاول بناء يهودي تشغيل أي عامل عربي في بناء ثلاث مدارس في يافا كان قد تعاقد على بناءها مع الحكومة، وتجمع على أثر ذلك العمال العرب في موقع المدرسة ومنعوا العمال اليهود من الوصول إليه، وفي (15) نيسان/ إبريل قتل يهودي وأصيب آخر بجراح خطيرة، ورد اليهود على ذلك بذبح قرويين عرب داخل بيوتهم فكانت تلك البداية، حيث تصاعدت أعمال العنف واشتد التوتر في شتى أنحاء فلسطين صاحبه وقوع العديد من القتلى والجرحى بين الجانبين، وبسبب تصدي الجيش البريطاني للمظاهرات العربية، حيث أردي العديد من القتلى في صفوف العرب وكذلك الجرحى وأعلن الإضراب العام في جميع أنحاء فلسطين، وازدادت حركة المقاومة الشعبية، حيث أخذت شكل جماعات وتمركزت في الجبال وانضم لهم العديد من المتطوعين العرب شرقي الأردن وسوريا ولبنان والعراق، وتحولت مجموعات المقاومة إلى ثورة شعبية مسلحة تساندها كافة فئات الشعب، واتخذت الثورة أساليب متنوعة مثل تدمير الجسور ونسف السكك الحديدية وتدمير أنابيب النفط ومهاجمة الثكنات العسكرية وضرب مواقع الجيش البريطاني، كما استخدم البريطانيون الطائرات والمدرعات والمدفعية في كثير من الأحيان للتصدي وقمع تلك الثورة، مما زاد من ثورة الشعب.
وفي غضون ذلك كان هناك بعض المساعي العربية للوساطة بين اللجنة العربية العليا والحكومة البريطانية حيث صدر نداء مشترك عن الملك بن سعود والملك غازي والأمير عبد الله في (10 تشرين الأول/ أكتوبر) إلى رئيس اللجنة العربية وإلى عرب فلسطين جاء فيه: "لقد تألمنا كثيراً للحالة السائدة في فلسطين، فنحن بالاتفاق مع أخواننا ملوك العرب والأمير عبد الله، ندعوكم للخلود إلى السكينة حقنا للدماء، معتمدين على حسن نوايا صديقتنا الحكومة البريطانية ورغبتها المعلنة لتحقيق العدل وثقوا بأننا سنواصل السعي في سبيل مساعدتكم".
وبناء على ذلك أعلنت اللجنة العربية العليا حل الإضراب ودعت عموم الشعب إلى إقامة الصلاة على أرواح الشهداء الذين زاد عددهم على الألف عربي.
مشروع التقسيم:
نشرت اللجنة الملكية في (7 تموز/ يوليو 1937م)، والتي كان يرأسها اللورد "بل" تقريراً تناول عرض وجهة نظر كل من زعماء العرب واليهود وأوصت اللجنة بأنه لا يمكن حل مشكلة فلسطين إلى على أساس اقتراح مشروع تقسيم فلسطين، وأهم بنود مشروع التقسيم هي:
1- إنشاء دولة يهودية تقسم القسم الشمالي والغربي من فلسطين، وتمتد على الساحل من حدود لبنان إلى جنوبي يافا، وتشمل عكا وحيفا وصفد وطبرية والناصرة وتل أبيب وترتبط بمعاهدة صداقة وتحالف مع بريطانيا.
2- تقع الأماكن المقدسة تحت الانتداب البريطاني بما فيها (القدس وبيت لحم) يصلهما ممر بيافا وتشمل اللد والرملة والناصرة أيضاً ودولة الانتداب مكلفة بحماية هذه الأماكن.
3- تضم الأراضي الفلسطينية (القسم الجنوبي والشرقي من فلسطين) ومنها مدينة يافا إلى شرق الأردن وترتبط بمعاهدة صداقة وتحالف مع بريطانيا.
4- تدفع الدولة اليهودية مساعدة مالية للدولة العربية وتمنح بريطانيا مليوني جنيه إسترليني للدولة العربية.
5- يجري ما يسمى بتبادل السكان بين الدولتين العربية واليهودية، وينقل العرب من الدولة اليهودية إلى الدولة العربية وعددهم (325) ألفاً بشكل تدريجي وتهيئ لهم أرض في منطقة بئر السبع بعد تحقيق مشاريع الري.
6- تعقد معاهدة جمركية بين الدولتين لتوحيد الضرائب بينهما على أكبر كمية ممكنة من البضائع المستوردة.
وفي مجال الاستيطان اليهودي وصل مجموع ما حصلت عليه مؤسسات وأفراد الصهيونية عام (1936م) إلى حوالي مليون ومئتي ألف دونم من الأراضي، وتضاعف عدد المستوطنات بحيث قدر عددها (203) مستوطنة، وتضاعف عدد السكان من (30 ألفاً) في عام (1927م) إلى (98 ألفاً) في عام (1936م).
وكان الرد العربي الفلسطيني على قرار التقسيم هو الاستمرار في الثورة ما حدا بتأجيل طرح قرار التقسيم، وبقيت الثورة مشتعلة حتى نشوب الحرب العالمية الثانية.
وفي (23 تشرين الثاني/ نوفمبر سنة 1938م) ألقى "مالكوم مكدونالد" وزير المستعمرات البريطاني بياناً هاماً في مجلس العموم شرح فيه الوضع القائم في فلسطين، ودل البيان على تفهمه لموقف العرب وسلامة وجهة نظرهم قائلاً: "إن مسائلة اللاجئين في أوروبا الوسطى لا يمكن تسويتها على حساب فلسطين، بل يجب أن تحل في ميدان أوسع كثيراً من ذلك الميدان"، مستطرداً: "إن الشعب العربي عاش في تلك البلاد منذ قرون عديدة، ولم يؤخذ رأيه عندما صدر وعد بلفور ولا عندما وضعت صيغة صك الانتداب، وقد كان العرب خلال السنوات العشرين التي تلت الحرب يرقبون هذا الاجتياح السلمي الذي يقوم به شعب غريب، ويرفعون عقيدتهم بالاحتجاج الصارخ بين الحين والآخر، حتى أصبحوا يخشون أن يؤول مصيرهم في بلادهم إلى الخضوع لسيطرة هذا الشعب الجديد النشيط من النواحي الاقتصادية والسياسية والتجارية، فلو كنت أنا عربياً لتولاني الذعر أيضاً".
وبعد هذا البيان تم الإفراج عن المعتقلين في (27 كانون أول/ ديسمبر 1938م)، ليتاح لفلسطين والعرب المشاركة في مؤتمر لندن القادم. وفي غضون ذلك توجه إلى المؤتمر بعض الوفود العربية من مصر والعراق والسعودية واليمن وشرق الأردن.
في (7 شباط/ فبراير 1939م) افتتح مؤتمر المائدة المستديرة الذي انتهى معلناً راية الفشل. وفي (17 أيار/ مايو 1939م) أصدرت الحكومة البريطانية ما عرف بالكتاب الأبيض، وجاء فيه:
1- الدستور:
وجاء في البند العاشر منه إن الهدف الذي ترمي إليه حكومة جلالته هو أن تشكل خلال عشر سنوات حكومة فلسطينية مستقلة ترتبط مع المملكة المتحدة بمعاهدة.
2- الهجرة:
إن على حكومة جلالته أن تسمح بزيادة توسع الوطن القومي اليهودي عن طريق الهجرة إذا كان العرب على استعداد للقبول بتلك الهجرة، ولكن ليس بدون ذلك.
3- الأراضي:
جاء في البند (16) من الكتاب الأبيض تقسم البلاد مناطق يمنع انتقال الأراضي من العرب إلى اليهود في قسم منها ويحدد في قسم، ويطلق في قسم ثالث.
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية رأت الصهيونية العالمية في بريطانيا تلك الدولة المنهكة القوى، ومن جهة أخرى وجدت أن لها وزنها العالمي في الولايات المتحدة التي احتفظت بقوتها والتي لها مصالحها في الشرق الأوسط، فما كان من الصهيونية العالمية إلا أن ضاعفت من نشاطها السياسي في الأوساط الأمريكية العليا على اعتبار أنها الوحيدة التي بمقدورها ممارسة الضغط على الحكومة البريطانية للتسليم بمطالب الصهيونية، واعتمدت في تنفيذ ذلك عدة وسائل أهمها الوسيلة الدبلوماسية، وكانت على شكل ضغوط مستمرة من قبل الوكالة اليهودية في بريطانيا، والثانية تنفيذ الإستراتيجية الموضوعة على أساس الضغط الأمريكي على الحكومة البريطانية، ومن جهة ثالثة تشكيل ضغط بطرق إرهابية من خلال القيام بتصعيد عمليات إرهابية وتدبير ضربات موجعة لإدارة الانتداب.
وبالفعل هذا ما كان من مؤسسات الصهيونية والوكالة اليهودية حيث دأبوا بالعمل الفاعل والناشط في تنفيذ ما يصبوا إليه وعملوا على كسب ميول القيادات الأمريكية ولا سيما الرئيس الأمريكي "هاري ترومان" الذي ما أن استقر في البيت الأبيض حتى وجه رسالة إلى رئيس الوزراء البريطاني "تشرشل" في (24 تموز/ يوليو 1945م)، كما طلب من رئيس الوزراء البريطاني الجديد "أتلي" في رسالة وجهها له في (31 آب/ أغسطس 1945م) بإدخال مئة ألف يهودي إلى فلسطين.
ورداً على الرسائل والاهتمام الأمريكي المتزايد باليهود اقترحت بريطانيا على الولايات المتحدة الأمريكية في (19 تشرين الأول/ أكتوبر 1945م) أن تشاركها في مسؤولية رسم سياسة فلسطين عن طريق تشكيل لجنة تحقيق أنجلوـ أمريكية لدراسة مشكلة فلسطين.
قرار التقسيم:
في أيلول/ سبتمبر (1947م) شكلت لجنة في الأمم المتحدة بناء على طلب من الحكومة البريطانية وأطلق عليها لجنة الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين "انسكوب" "unscop"
united nation special committee on palestine.
وتكونت اللجنة من أحد عشر عضواً بعد أن تم استبعاد الدول الخمس الكبرى الدائمة العضوية في مجلس الأمن بحجة أن اشتراكها قد يفضي إلى وضع تقرير متحيز، وتم اختيار الأحد عشر عضواً من دول استراليا والسويد وكندا والهند وتشيكوسلوفاكيا وإيران وهولندا وجواتيمالا وبيرو والأورغواي ويوغسلافيا، وعيّن القاضي "أميل ساندوستروم" السويدي رئيساً للجنة، على أن تقدم تقريرها في أيلول/ سبتمبر ويكون التقرير شاملاً لحل المشكلة بما تراه اللجنة من مقترحات.
واحتج العرب على إرسال لجنة أخرى إلى فلسطين وتم التصويت ضد القرار وكان تشكيل اللجنة في حد ذاته يمثل تحيزاً ضد العرب، لأن بعض أعضائها معروفون بميولهم للصهيونية أو يقعون تحت الضغط الأمريكي.
أنهت اللجنة تقريرها في (31آب/ أغسطس 1947م) وعرضته على الجمعية العامة للأمم المتحدة وكان التقرير قد اشتمل على إحدى عشرة توصية.
ويدعو قرار التقسيم إلى:
- تقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية وجزء منها تحت الوصاية الدولية تتولى إدارته الأمم المتحدة، بحيث يكون ما يقارب 56% منها لليهود.
- تصبح الدولتان مستقلتان بعد فترة انتقالية تدوم سنتين، ابتداء من أول أيلول/ سبتمبر (1947م) والموافقة على دستور كل منهما وتوقيع معاهدة اقتصادية وإقامة اتحاد اقتصادي وتوحيد الرسوم الجمركية والنقد.
- كما نص قرار التقسيم على تنظيم الهجرة اليهودية.
وبعد عرض تلك التوصيات كانت الهيئة العربية العليا قد أعلنت رفضها لتلك المشاريع، وفي اليوم التالي من نشر التقرير عبرت "غولدا مايرسون مائير" ممثلة الوكالة اليهودية عن قبولها الضمني بمشروع الأكثرية.
فيما عبّر العرب عامة وعرب فلسطين خاصة عن استيائهم الشديد من هذا المشروع، وكان الاستياء العام قد عبرت عنه الشعوب العربية بكاملها حيث قامت المظاهرات في العراق وسوريا ولبنان ومعظم الأقطار العربية. وعلى أثر ذلك سارعت اللجنة السياسية في جامعة الدول العربية إلى عقد اجتماع لها في صوفر بلبنان في 6 أيلول/ سبتمبر لدراسة محتوى تقرير اللجنة واتخاذ موقف سياسي عربي موحد، وعلى غرار الاجتماع تم اتخاذ القرارات التالية:
1- ترى اللجنة السياسية في تنفيذ هذه المقترحات خطراً محققاً يهدد الأمن والسلام في فلسطين والبلاد العربية، ولذا فقد وطدت العزم على أن تقاوم بجميع الوسائل الفعالة تنفيذ هذه المقترحات.
2- ترى اللجنة السياسية أن تكاشف الشعوب العربية جميعاً بحقيقة المخاطر التي تحيط بقضية فلسطين، وتدعو كل عربي إلى تقديم ما في وسعه من معونة وتضحية.
3- قررت اللجنة السياسية إرسال المذكرات إلى حكومتي الولايات المتحدة وبريطانيا، تعلمها بأن كل قرار يتخذ بصدد قضية فلسطين دون أن ينص على قيام دولة عربية مستقلة يهدد بإثارة اضطرابات خطيرة في الشرق الأوسط.
4- قررت اللجنة أن توصي دول الجامعة بتقديم أقصى ما يمكن من معونة عاجلة لأهل فلسطين من مال وسلاح ورجال.
وعلى أثر قرار التقسيم قام عرب فلسطين بمقاومة الاستيطان الصهيوني بدعم عربي، وكانت هذه المقاومة قد اتسعت وشملت جميع أنحاء البلاد، وقامت معارك طاحنة استخدمت فيها كافة الأسلحة وراح ضحيتها العديد من القتلى والجرحى.
وبسبب هذه الاضطرابات الخطيرة انعقد مجلس الأمن الدولي في 19 آذار/ مارس للنظر في الحالة الخطيرة التي آلت إليها الأوضاع في فلسطين، اتضح أنه وإزاء هذه الأوضاع لا يمكن العمل على تنفيذ مشروع التقسيم بالطرق السلمية، ويجب أن يتم تنفيذ المشروع، وهنا قرر اليهود إحباط كل محاولة يقوم بها مجلس الأمن قد تبطل مفعول قرار التقسيم ولوضع الأمم المتحدة أمام الأمر الواقع بدأ اليهود هجومهم المسلح في عملية "نخشون" ونجم عنها الاستيلاء على قرية القسطل العربية قضاء القدس.
وفي 9 نيسان/ ابريل استطاع عبد القادر الحسيني والمجاهدين معه في معركة حربية قوية طرد اليهود من القسطل، حيث سقط شهيداً فيها، فعاد اليهود بعد ساعات مستغلين تشييع المواطنين والمجاهدين لزعيمهم واحتلوا القرية بعد أن دمروها كاملة. وفي نفس الوقت وكجزء من خطة الهجوم بادر الصهاينة إلى تدبير مذبحة "دير ياسين" الواقعة قرب القدس، حيث اقتحموا القرية بالأسلحة الثقيلة ومثّلوا بأهلها فراح ضحية هذه المجزرة (250) فلسطينياً أغلبهم من النساء والأطفال، ووصف الكاتب اليهودي "جون كيمي" هذه المذبحة المريعة بأنها "أبشع وصمة في تاريخ اليهود".
كان الانجليز عوناً لليهود في تحقيق مآربهم، حيث قاموا بتدريبهم خلال فترة الانتداب ومدهم بالسلاح، وكلما انسحبوا من منطقة في عام (1948م) سلموها إلى اليهود. وانتهت هذه الفترة من عام (1948م) والتي سميت بنكبة عام (1948م) باحتلال اليهود لمعظم أراضي فلسطين وتهجير مواطنيها باستثناء غزة والضفة الغربية ومدينة القدس الشرقية.
في غضون ذلك كان البيت الأبيض قد استدعى ممثل الوكالة اليهودية في واشنطن "إلياهو ايشتاين"، وتم إبلاغه بأن الولايات المتحدة قررت أن تعترف اعترافاً واقعياً باستقلال "إسرائيل" شرط أن تتلقى واشنطن طلباً بهذا الاعتراف. وفي الساعة السادسة تماماً حسب توقيت واشنطن أعلن نبأ نهاية الانتداب على فلسطين، وفي الساعة السادسة ودقيقة واحدة أُعلن قيام دولة "إسرائيل". وفي الساعة السادسة وأحدى عشرة دقيقة اعترفت الولايات المتحدة الأمريكية بدولة "إسرائيل".
برزت الحركة الصهيونية التي انتشرت بين يهود أوروبا في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، ولفظ "الصهيونية " مشتق من كلمة "تسيون" العبرية، وهي اسم لجبل يقع جنوبي غربي القدس "جبل صهيون" يحج إليه اليهود لاعتقادهم أن الملك داوود دفن هناك.
من المعروف أن اليهود في تلك الفترة وما قبلها كانوا عبارة عن تجمعات يهودية منتشرة في أنحاء العالم، وهي تجمعات لا تجمعها أي روابط سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو تراثية سوى الرابطة الدينية، ويرجع ذلك إلى ذوبان هذه التجمعات في المجتمعات التي كانت تعيش فيها، وكذلك فإن الدعوى الصهيونية بوجود "قومية يهودية" لا تعدو كونها بدعة مختلقة لأن هذه التجمعات كانت تفتقر إلى عناصر القومية مثل الشعب الموحد، والرقعة الإقليمية من الأرض التي يقيم عليها واللغة والعادات والتقاليد المشتركة.
وعد بلفور:
نضجت الفكرة الصهيونية في المناخ الحضاري الأوروبي منذ القرن السادس عشر الميلادي، وترعرعت في الأجواء السياسية التي سادت أوروبا في القرن التاسع عشر (أجواء الإمبريالية) وتحديداً بعد عام (1870م). وقامت الفكرة الصهيونية على أساس إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين بعد أن تمت الصفقة بين الحركة الصهيونية والاستعمار البريطاني على أساس "وعد بلفور" الشهير في 2 تشرين ثاني/ نوفمبر عام (1917م) والذي جاء نصه:
"وزارة الخارجية
2 تشرين الثاني/ نوفمبر(1917م)
عزيزي اللورد روتشيلد:
يسرني جداً أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة جلالة الملك التصريح التالي الذي ينطوي على العطف على أماني اليهود الصهيونية وقد عرض على الوزارة وأقرته.
إن حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية على أن يفهم جلياً أنه لن يؤتي بعمل من شأنه الإخلال بالحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين ولا بالحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلاد الأخرى.
وسأكون شاكراً لو تكرمتم بإحاطة الاتحاد الصهيوني علماً بهذا التصريح.
المخلص
آرثر جميس بلفور"
ويوضح هذا التصريح التزام الحكومة البريطانية آنذاك بدعم المطامع الصهيونية في أرض فلسطين العربية ضد إرادة أصحابها الشرعيين، وكان هذا التصريح يمثّل إعطاء حق من كان لا يملك لمن لا يستحق.
وعندما نجحت الجيوش البريطانية بدخول البلاد من خلال اللجوء إلى الخدعة، استُقبلت استقبالاً حاراً بوصفها محرِرة لا محتلة، وبعد وصول اللجنة الصهيونية شعر العرب بنذر الخطر، وكانت الحكومة البريطانية قد وافقت على إرسالها لفلسطين على أساس "أن تنجز أي خطوات تستدعيها مقتضيات تنفيذ تصريح الحكومة بشأن إقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، ضمن الخضوع لسلطة الجنرال البريطاني أللنبي، وفي نفس الوقت تهدئة شكوك العرب بشأن النوايا الحقيقية للصهيونية".
وكذلك عملت الإدارة العسكرية المحتلة على تهيئة فلسطين بالتدريج لتصبح وطناً قومياً للصهيونيين بكافة الوسائل والأساليب الممكنة.
إن ما حدث في فلسطين بعد قدوم اللجنة الصهيونية يعتبر أمراً لا يحتمل التصديق وذلك بالعمل على إنشاء وطن قومي لليهود في بلد يتجاوز سكانه 92% من العرب الفلسطينيين.
1923-1948م: الانتداب البريطاني على فلسطين:
في بداية هذه الفترة تناولت بريطانيا صك الانتداب الفلسطيني لإدارة البلاد وفقاً لميثاق عصبة الأمم، في حين لم تكن بريطانيا بحاجة إلى البدء بتنفيذ بنود هذا الصك لأنها عملياً كانت قد باشرت سلطاتها على فلسطين قبل ذلك، بسنوات طبقاً لسياستها الاستعمارية الصهيونية المعتمدة بشكل رئيسي على الإكراه وقوة السلاح حتى عام 1948م.
وخلال هذه الفترة لم تتقدم المؤسسات في البلاد، وبذلك توجب على العرب الفلسطينيين أن يرفعوا بشكواهم إلى لجنة الانتدابات الدائمة في جنيف التابعة لعصبة الأمم، ولكن اللجنة لم تكن تملك حق التفتيش والمتابعة في البلدان المنتدبة، فما كان من المواطنين العرب على مدار فترة الانتداب إلا الاحتجاج والمقاومة وإقامة المظاهرات والتمرد والعصيان المدني والذي أدى إلى صدام عنيف مع قوات الجيش البريطاني والمستوطنين اليهود.
وفي عام (1924م) وضع المندوب السامي "هربرت صموئيل" مشروع نقد فلسطيني جديد، وصدر مرسوم النقد الفلسطيني في شباط/ فبراير (1927م) وسط اتهامات الشعب بأن الحكومة لا تستطيع أن تصدر منه ما تشاء دون مراقبة، لأن ذلك سيلحق الضرر بالاقتصاد العربي، كما أتت جهود المندوب السامي ثمارها في إصدار قانون الجنسية الفلسطينية بقصد منح اليهود المقيمين في البلاد الجنسية الفلسطينية.
وأجابت الحكومة البريطانية وخلال دورتين متتابعتين لاجتماع عصبة الأمم (1924-1925م) صراحة بأنها لا توافق على تأسيس مجلسٍ تشريعي في فلسطين يقوم على أساس التمثيل النسبي، والذي من الطبيعي أن تكون الأغلبية الساحقة فيه للعرب الفلسطينيين، خاصةً أن ذلك يقف عقبة في قيام الحكومة بالواجبات الملقاة على عاتقها في إنشاء وطن قومي لليهود.
بعد نهاية فترة المندوب السامي "هربرت صموئيل"، عين اللورد "هربرت تشارلز بلومر" مندوباً سامياً لفلسطين في (25آب/ أغسطس 1925م)، وبقي في منصبه ثلاثة أعوام.
وفي آذار/ مارس (1925م) قام "بلفور" بزيارة للقدس للمشاركة في افتتاح الجامعة العبرية التي شيدت على أرض عربية فوق جبل الزيتون كانت السلطات البريطانية قد انتزعتها عام(1918م) من أصحابها بالقوة وأعطيت للصهيونيين، وأعلنت البلاد إضراباً عاماً احتجاجاً على زيارة بلفور، فقامت هناك مظاهرات كبيرة ضده، وهو ما حمل السلطات البريطانية على إخراجه إلى بيروت حيث ركب الباخرة ليعود إلى بلاده.
وخلال العشر سنوات الأولى من الانتداب البريطاني دخل فلسطين، ما يقارب (76400) مهاجر يهودي جاء غالبيتهم من بلدان أوروبا الشرقية، ومع نشاط الهجرة المتزايد إلى فلسطين أدرك العرب ضرورة مقاومة الصهيونية وتحيز السلطات لها، فتفجرت الثورة التي كان شرارتها هي حادثة البراق في (24 أيلول/ سبتمبر 1928م)، حيث حاول اليهود الاستيلاء على الجدار الغربي للمسجد الأقصى الذي يملكه المسلمون، وهو ما أسفر عن حشد التأييد العربي للقضية الفلسطينية من الأقطار العربية، وكانت بداية ما عُرف بثورة البراق التي شهدت أحداث دامية كان على أثرها مداهمة العرب للتجمعات اليهودية في الخليل ونابلس وبيسان وصفد، وحينها هبت القوات البريطانية للدفاع عن اليهود، مستخدمةً أقصى درجات القمع ضد المتظاهرين العرب، واستنجدت بقوات من مصر واستخدمت الطائرات وقوات المشاة والمدرعات إضافةً لإطلاق النار المباشر، وألحقت الدمار بقريتي لفتا ودير ياسين وغيرهما، وقدم للمحاكمة ما يزيد على الألف شخص معظمهم من العرب، كما صدر الحكم بإعدام (26) شخصاً بينهم (25) عربياً ويهودي واحد.
وفي عام (1930م) وصل عدد المهاجرين اليهود إلى (104.750)، ووصل خلال الستة أعوام التالية إلى (284.645) أي بزيادة تعادل (164 %)، وهذه الأرقام لا تتضمن الأعداد التي دخلت البلاد بطرق غير شرعية.
في ليلة الإسراء والمعراج بتاريخ (27 رجب 1350هـ) الموافق (7كانون أول/ ديسمبر 1931م) عقد مؤتمر إسلامي حضره ممثلون عن اثنين وعشرين بلداً إسلامياً، ولفيف من الشخصيات البارزة في العالم العربي، وخلال افتتاحية المؤتمر أكد المفتي "محمد أمين الحسيني" على أهمية فلسطين والأقصى في العالم الإسلامي كما أكد المؤتمر شجبه للصهيونية و السياسة البريطانية في فلسطين والهجرة اليهودية إليها، وكان من قرارات المؤتمر إنشاء جامعة إسلامية في القدس ومقاطعة جميع المصنوعات الصهيونية في الأقطار الإسلامية وتأسيس شركة زراعية في فلسطين لإنقاذ أراضي المسلمين.
في (13 تموز/ يوليو 1931م) صدر بلاغ رسمي بتعيين الجنرال "آرثر غرنفيل" (واكهوب) مندوباً سامياً لفلسطين، ووصل (واكهوب) إلى فلسطين يحمل تعليمات بوجوب تعزيز مسألة الوطن القومي لليهود والعمل بأسلوب التسويف والمماطلة مع طلبات العرب، والوصول إلى أكثرية سكانية يهودية في فلسطين مع طرح بعض المشاريع الوهمية لإشغال العرب بها.
في (4 آب/ أغسطس 1932م) صدر بيان تأسيس حزب الاستقلال الذي تعهد بالكفاح ضد الاستعمار ومحاربة الهجرة اليهودية والعمل على تحقيق الوحدة العربية، وكرر الاستقلاليون رفضهم لوعد بلفور والانتداب، وكشفوا عن أساس التحالف القائم بين الصهيونية والاستعمار البريطاني، وأكدوا على أن ثلث ميزانية البلاد مخصص لشؤون الدفاع والأمن بسبب محاولة الحكومة بناء وطن قومي أجنبي خلافاً لإرادة الفلسطينيين. وفي مطلع (1932م) عقد مؤتمر للشباب الفلسطيني في يافا للنظر في تجنيد الشباب لخدمة الحركة الوطنية.
في نهاية العام (1934م) باعتراف لجنة "بل" بلغ عدد المهاجرين اليهود نحو (42.359) مقابل (30327) عام (1933م) و(9553) عام (1932م). وفي نهاية عام (1935م) بلغ رقم الهجرة اليهودية (61854) يهودياً وفدوا إلى فلسطين من شتى أرجاء أوروبا، كما دلت الإحصائيات الرسمية على أنه بحلول عام (1935م) أصبح عدد اليهود في فلسطين ضعفي ما كان في (1929م) بحيث غدا اليهود يمثلون ربع جملة السكان.
ثورة الشيخ عز الدين القسام:
أيقن الانتداب البريطاني خطورة الموقف في فلسطين بعدما شهدت البلاد ثورة الشيخ عز الدين القسام الذي كان قد وهب نفسه هو وثلة من المجاهدين للدفاع عن أرض فلسطين، حيث استشهد في أحراش يعبد قرب جنين بعد صدامه في موقعة عسكرية مع جنود من جيش الانتداب، وبعد هذه الحادثة مباشرة أوعزت بريطانيا إلى مندوبها السامي "واكهوب" بعد شهر واحد من استشهاد القسام ليقوم بطرح مشروع المجلس التشريعي على العرب واليهود جواباً على المطالب التي قدمتها لجنة الأحزاب الفلسطينية في تشرين الثاني/ نوفمبر والذي جاء فيه:
1- إن عرض الحكومة في كانون الأول/ ديسمبر (1935م) لمشروع دستور جديد كان يمثل خطوة عملية نحو الحكم الديمقراطي حين اقترح مجلساً تشريعياً بغالبية غير رسمية كبيرة.
2- بخصوص بيع الأراضي: عزمت الحكومة على سن قانون يمنع بيع الأراضي إلا إذا كان المالك العربي قد احتفظ بقطعة من الأرض تكفي احتياجات أسرة.
3- جرى قياس لمعدل الهجرة اليهودية بعناية وفقاً لمقدرة البلاد الاستيعابية، وقد أنشئ مكتب إحصائي جديد لتقدير هذا المعدل.
ثورة (1936م) الكبرى ومشروع التقسيم:
انطلقت الثورة في شباط /فبراير (1936م) من حادثة صغيرة وكانت الشرارة التي ألهبت مشاعر العرب الفلسطينيين، حيث عبرت عن عدم القدرة على احتمال المزيد، فبدأت هذه الثورة عندما رفض مقاول بناء يهودي تشغيل أي عامل عربي في بناء ثلاث مدارس في يافا كان قد تعاقد على بناءها مع الحكومة، وتجمع على أثر ذلك العمال العرب في موقع المدرسة ومنعوا العمال اليهود من الوصول إليه، وفي (15) نيسان/ إبريل قتل يهودي وأصيب آخر بجراح خطيرة، ورد اليهود على ذلك بذبح قرويين عرب داخل بيوتهم فكانت تلك البداية، حيث تصاعدت أعمال العنف واشتد التوتر في شتى أنحاء فلسطين صاحبه وقوع العديد من القتلى والجرحى بين الجانبين، وبسبب تصدي الجيش البريطاني للمظاهرات العربية، حيث أردي العديد من القتلى في صفوف العرب وكذلك الجرحى وأعلن الإضراب العام في جميع أنحاء فلسطين، وازدادت حركة المقاومة الشعبية، حيث أخذت شكل جماعات وتمركزت في الجبال وانضم لهم العديد من المتطوعين العرب شرقي الأردن وسوريا ولبنان والعراق، وتحولت مجموعات المقاومة إلى ثورة شعبية مسلحة تساندها كافة فئات الشعب، واتخذت الثورة أساليب متنوعة مثل تدمير الجسور ونسف السكك الحديدية وتدمير أنابيب النفط ومهاجمة الثكنات العسكرية وضرب مواقع الجيش البريطاني، كما استخدم البريطانيون الطائرات والمدرعات والمدفعية في كثير من الأحيان للتصدي وقمع تلك الثورة، مما زاد من ثورة الشعب.
وفي غضون ذلك كان هناك بعض المساعي العربية للوساطة بين اللجنة العربية العليا والحكومة البريطانية حيث صدر نداء مشترك عن الملك بن سعود والملك غازي والأمير عبد الله في (10 تشرين الأول/ أكتوبر) إلى رئيس اللجنة العربية وإلى عرب فلسطين جاء فيه: "لقد تألمنا كثيراً للحالة السائدة في فلسطين، فنحن بالاتفاق مع أخواننا ملوك العرب والأمير عبد الله، ندعوكم للخلود إلى السكينة حقنا للدماء، معتمدين على حسن نوايا صديقتنا الحكومة البريطانية ورغبتها المعلنة لتحقيق العدل وثقوا بأننا سنواصل السعي في سبيل مساعدتكم".
وبناء على ذلك أعلنت اللجنة العربية العليا حل الإضراب ودعت عموم الشعب إلى إقامة الصلاة على أرواح الشهداء الذين زاد عددهم على الألف عربي.
مشروع التقسيم:
نشرت اللجنة الملكية في (7 تموز/ يوليو 1937م)، والتي كان يرأسها اللورد "بل" تقريراً تناول عرض وجهة نظر كل من زعماء العرب واليهود وأوصت اللجنة بأنه لا يمكن حل مشكلة فلسطين إلى على أساس اقتراح مشروع تقسيم فلسطين، وأهم بنود مشروع التقسيم هي:
1- إنشاء دولة يهودية تقسم القسم الشمالي والغربي من فلسطين، وتمتد على الساحل من حدود لبنان إلى جنوبي يافا، وتشمل عكا وحيفا وصفد وطبرية والناصرة وتل أبيب وترتبط بمعاهدة صداقة وتحالف مع بريطانيا.
2- تقع الأماكن المقدسة تحت الانتداب البريطاني بما فيها (القدس وبيت لحم) يصلهما ممر بيافا وتشمل اللد والرملة والناصرة أيضاً ودولة الانتداب مكلفة بحماية هذه الأماكن.
3- تضم الأراضي الفلسطينية (القسم الجنوبي والشرقي من فلسطين) ومنها مدينة يافا إلى شرق الأردن وترتبط بمعاهدة صداقة وتحالف مع بريطانيا.
4- تدفع الدولة اليهودية مساعدة مالية للدولة العربية وتمنح بريطانيا مليوني جنيه إسترليني للدولة العربية.
5- يجري ما يسمى بتبادل السكان بين الدولتين العربية واليهودية، وينقل العرب من الدولة اليهودية إلى الدولة العربية وعددهم (325) ألفاً بشكل تدريجي وتهيئ لهم أرض في منطقة بئر السبع بعد تحقيق مشاريع الري.
6- تعقد معاهدة جمركية بين الدولتين لتوحيد الضرائب بينهما على أكبر كمية ممكنة من البضائع المستوردة.
وفي مجال الاستيطان اليهودي وصل مجموع ما حصلت عليه مؤسسات وأفراد الصهيونية عام (1936م) إلى حوالي مليون ومئتي ألف دونم من الأراضي، وتضاعف عدد المستوطنات بحيث قدر عددها (203) مستوطنة، وتضاعف عدد السكان من (30 ألفاً) في عام (1927م) إلى (98 ألفاً) في عام (1936م).
وكان الرد العربي الفلسطيني على قرار التقسيم هو الاستمرار في الثورة ما حدا بتأجيل طرح قرار التقسيم، وبقيت الثورة مشتعلة حتى نشوب الحرب العالمية الثانية.
وفي (23 تشرين الثاني/ نوفمبر سنة 1938م) ألقى "مالكوم مكدونالد" وزير المستعمرات البريطاني بياناً هاماً في مجلس العموم شرح فيه الوضع القائم في فلسطين، ودل البيان على تفهمه لموقف العرب وسلامة وجهة نظرهم قائلاً: "إن مسائلة اللاجئين في أوروبا الوسطى لا يمكن تسويتها على حساب فلسطين، بل يجب أن تحل في ميدان أوسع كثيراً من ذلك الميدان"، مستطرداً: "إن الشعب العربي عاش في تلك البلاد منذ قرون عديدة، ولم يؤخذ رأيه عندما صدر وعد بلفور ولا عندما وضعت صيغة صك الانتداب، وقد كان العرب خلال السنوات العشرين التي تلت الحرب يرقبون هذا الاجتياح السلمي الذي يقوم به شعب غريب، ويرفعون عقيدتهم بالاحتجاج الصارخ بين الحين والآخر، حتى أصبحوا يخشون أن يؤول مصيرهم في بلادهم إلى الخضوع لسيطرة هذا الشعب الجديد النشيط من النواحي الاقتصادية والسياسية والتجارية، فلو كنت أنا عربياً لتولاني الذعر أيضاً".
وبعد هذا البيان تم الإفراج عن المعتقلين في (27 كانون أول/ ديسمبر 1938م)، ليتاح لفلسطين والعرب المشاركة في مؤتمر لندن القادم. وفي غضون ذلك توجه إلى المؤتمر بعض الوفود العربية من مصر والعراق والسعودية واليمن وشرق الأردن.
في (7 شباط/ فبراير 1939م) افتتح مؤتمر المائدة المستديرة الذي انتهى معلناً راية الفشل. وفي (17 أيار/ مايو 1939م) أصدرت الحكومة البريطانية ما عرف بالكتاب الأبيض، وجاء فيه:
1- الدستور:
وجاء في البند العاشر منه إن الهدف الذي ترمي إليه حكومة جلالته هو أن تشكل خلال عشر سنوات حكومة فلسطينية مستقلة ترتبط مع المملكة المتحدة بمعاهدة.
2- الهجرة:
إن على حكومة جلالته أن تسمح بزيادة توسع الوطن القومي اليهودي عن طريق الهجرة إذا كان العرب على استعداد للقبول بتلك الهجرة، ولكن ليس بدون ذلك.
3- الأراضي:
جاء في البند (16) من الكتاب الأبيض تقسم البلاد مناطق يمنع انتقال الأراضي من العرب إلى اليهود في قسم منها ويحدد في قسم، ويطلق في قسم ثالث.
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية رأت الصهيونية العالمية في بريطانيا تلك الدولة المنهكة القوى، ومن جهة أخرى وجدت أن لها وزنها العالمي في الولايات المتحدة التي احتفظت بقوتها والتي لها مصالحها في الشرق الأوسط، فما كان من الصهيونية العالمية إلا أن ضاعفت من نشاطها السياسي في الأوساط الأمريكية العليا على اعتبار أنها الوحيدة التي بمقدورها ممارسة الضغط على الحكومة البريطانية للتسليم بمطالب الصهيونية، واعتمدت في تنفيذ ذلك عدة وسائل أهمها الوسيلة الدبلوماسية، وكانت على شكل ضغوط مستمرة من قبل الوكالة اليهودية في بريطانيا، والثانية تنفيذ الإستراتيجية الموضوعة على أساس الضغط الأمريكي على الحكومة البريطانية، ومن جهة ثالثة تشكيل ضغط بطرق إرهابية من خلال القيام بتصعيد عمليات إرهابية وتدبير ضربات موجعة لإدارة الانتداب.
وبالفعل هذا ما كان من مؤسسات الصهيونية والوكالة اليهودية حيث دأبوا بالعمل الفاعل والناشط في تنفيذ ما يصبوا إليه وعملوا على كسب ميول القيادات الأمريكية ولا سيما الرئيس الأمريكي "هاري ترومان" الذي ما أن استقر في البيت الأبيض حتى وجه رسالة إلى رئيس الوزراء البريطاني "تشرشل" في (24 تموز/ يوليو 1945م)، كما طلب من رئيس الوزراء البريطاني الجديد "أتلي" في رسالة وجهها له في (31 آب/ أغسطس 1945م) بإدخال مئة ألف يهودي إلى فلسطين.
ورداً على الرسائل والاهتمام الأمريكي المتزايد باليهود اقترحت بريطانيا على الولايات المتحدة الأمريكية في (19 تشرين الأول/ أكتوبر 1945م) أن تشاركها في مسؤولية رسم سياسة فلسطين عن طريق تشكيل لجنة تحقيق أنجلوـ أمريكية لدراسة مشكلة فلسطين.
قرار التقسيم:
في أيلول/ سبتمبر (1947م) شكلت لجنة في الأمم المتحدة بناء على طلب من الحكومة البريطانية وأطلق عليها لجنة الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين "انسكوب" "unscop"
united nation special committee on palestine.
وتكونت اللجنة من أحد عشر عضواً بعد أن تم استبعاد الدول الخمس الكبرى الدائمة العضوية في مجلس الأمن بحجة أن اشتراكها قد يفضي إلى وضع تقرير متحيز، وتم اختيار الأحد عشر عضواً من دول استراليا والسويد وكندا والهند وتشيكوسلوفاكيا وإيران وهولندا وجواتيمالا وبيرو والأورغواي ويوغسلافيا، وعيّن القاضي "أميل ساندوستروم" السويدي رئيساً للجنة، على أن تقدم تقريرها في أيلول/ سبتمبر ويكون التقرير شاملاً لحل المشكلة بما تراه اللجنة من مقترحات.
واحتج العرب على إرسال لجنة أخرى إلى فلسطين وتم التصويت ضد القرار وكان تشكيل اللجنة في حد ذاته يمثل تحيزاً ضد العرب، لأن بعض أعضائها معروفون بميولهم للصهيونية أو يقعون تحت الضغط الأمريكي.
أنهت اللجنة تقريرها في (31آب/ أغسطس 1947م) وعرضته على الجمعية العامة للأمم المتحدة وكان التقرير قد اشتمل على إحدى عشرة توصية.
ويدعو قرار التقسيم إلى:
- تقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية وجزء منها تحت الوصاية الدولية تتولى إدارته الأمم المتحدة، بحيث يكون ما يقارب 56% منها لليهود.
- تصبح الدولتان مستقلتان بعد فترة انتقالية تدوم سنتين، ابتداء من أول أيلول/ سبتمبر (1947م) والموافقة على دستور كل منهما وتوقيع معاهدة اقتصادية وإقامة اتحاد اقتصادي وتوحيد الرسوم الجمركية والنقد.
- كما نص قرار التقسيم على تنظيم الهجرة اليهودية.
وبعد عرض تلك التوصيات كانت الهيئة العربية العليا قد أعلنت رفضها لتلك المشاريع، وفي اليوم التالي من نشر التقرير عبرت "غولدا مايرسون مائير" ممثلة الوكالة اليهودية عن قبولها الضمني بمشروع الأكثرية.
فيما عبّر العرب عامة وعرب فلسطين خاصة عن استيائهم الشديد من هذا المشروع، وكان الاستياء العام قد عبرت عنه الشعوب العربية بكاملها حيث قامت المظاهرات في العراق وسوريا ولبنان ومعظم الأقطار العربية. وعلى أثر ذلك سارعت اللجنة السياسية في جامعة الدول العربية إلى عقد اجتماع لها في صوفر بلبنان في 6 أيلول/ سبتمبر لدراسة محتوى تقرير اللجنة واتخاذ موقف سياسي عربي موحد، وعلى غرار الاجتماع تم اتخاذ القرارات التالية:
1- ترى اللجنة السياسية في تنفيذ هذه المقترحات خطراً محققاً يهدد الأمن والسلام في فلسطين والبلاد العربية، ولذا فقد وطدت العزم على أن تقاوم بجميع الوسائل الفعالة تنفيذ هذه المقترحات.
2- ترى اللجنة السياسية أن تكاشف الشعوب العربية جميعاً بحقيقة المخاطر التي تحيط بقضية فلسطين، وتدعو كل عربي إلى تقديم ما في وسعه من معونة وتضحية.
3- قررت اللجنة السياسية إرسال المذكرات إلى حكومتي الولايات المتحدة وبريطانيا، تعلمها بأن كل قرار يتخذ بصدد قضية فلسطين دون أن ينص على قيام دولة عربية مستقلة يهدد بإثارة اضطرابات خطيرة في الشرق الأوسط.
4- قررت اللجنة أن توصي دول الجامعة بتقديم أقصى ما يمكن من معونة عاجلة لأهل فلسطين من مال وسلاح ورجال.
وعلى أثر قرار التقسيم قام عرب فلسطين بمقاومة الاستيطان الصهيوني بدعم عربي، وكانت هذه المقاومة قد اتسعت وشملت جميع أنحاء البلاد، وقامت معارك طاحنة استخدمت فيها كافة الأسلحة وراح ضحيتها العديد من القتلى والجرحى.
وبسبب هذه الاضطرابات الخطيرة انعقد مجلس الأمن الدولي في 19 آذار/ مارس للنظر في الحالة الخطيرة التي آلت إليها الأوضاع في فلسطين، اتضح أنه وإزاء هذه الأوضاع لا يمكن العمل على تنفيذ مشروع التقسيم بالطرق السلمية، ويجب أن يتم تنفيذ المشروع، وهنا قرر اليهود إحباط كل محاولة يقوم بها مجلس الأمن قد تبطل مفعول قرار التقسيم ولوضع الأمم المتحدة أمام الأمر الواقع بدأ اليهود هجومهم المسلح في عملية "نخشون" ونجم عنها الاستيلاء على قرية القسطل العربية قضاء القدس.
وفي 9 نيسان/ ابريل استطاع عبد القادر الحسيني والمجاهدين معه في معركة حربية قوية طرد اليهود من القسطل، حيث سقط شهيداً فيها، فعاد اليهود بعد ساعات مستغلين تشييع المواطنين والمجاهدين لزعيمهم واحتلوا القرية بعد أن دمروها كاملة. وفي نفس الوقت وكجزء من خطة الهجوم بادر الصهاينة إلى تدبير مذبحة "دير ياسين" الواقعة قرب القدس، حيث اقتحموا القرية بالأسلحة الثقيلة ومثّلوا بأهلها فراح ضحية هذه المجزرة (250) فلسطينياً أغلبهم من النساء والأطفال، ووصف الكاتب اليهودي "جون كيمي" هذه المذبحة المريعة بأنها "أبشع وصمة في تاريخ اليهود".
كان الانجليز عوناً لليهود في تحقيق مآربهم، حيث قاموا بتدريبهم خلال فترة الانتداب ومدهم بالسلاح، وكلما انسحبوا من منطقة في عام (1948م) سلموها إلى اليهود. وانتهت هذه الفترة من عام (1948م) والتي سميت بنكبة عام (1948م) باحتلال اليهود لمعظم أراضي فلسطين وتهجير مواطنيها باستثناء غزة والضفة الغربية ومدينة القدس الشرقية.
في غضون ذلك كان البيت الأبيض قد استدعى ممثل الوكالة اليهودية في واشنطن "إلياهو ايشتاين"، وتم إبلاغه بأن الولايات المتحدة قررت أن تعترف اعترافاً واقعياً باستقلال "إسرائيل" شرط أن تتلقى واشنطن طلباً بهذا الاعتراف. وفي الساعة السادسة تماماً حسب توقيت واشنطن أعلن نبأ نهاية الانتداب على فلسطين، وفي الساعة السادسة ودقيقة واحدة أُعلن قيام دولة "إسرائيل". وفي الساعة السادسة وأحدى عشرة دقيقة اعترفت الولايات المتحدة الأمريكية بدولة "إسرائيل".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق