بحث هذه المدونة الإلكترونية

2014-05-17

فلسطينيو الداخل: الباقون لانتظار العائدين


 القدس المحتلة ــ نضال محمد وتد
هو وجه آخر من وجوه النكبة؛ مائة وخمسون ألف فلسطيني وجدوا أنفسهم بعد النكبة تحت الاحتلال الإسرائيلي، وفُرض عليهم نظام حكم عسكري، بات أداة مريحة لسلخ ما تبقى من أراضي فلسطين ونهبه، فضلاً عن سلب الأرض الواسعة التي هُجر أهلها. أصحاب أرض تحولوا إلى أقلية صغيرة، مقطّعة الأوصال، موزّعة على الجليل والمثلّث والنقب، وبضعة آلاف في مدن فلسطين التاريخية، بدون قيادة وطنية أو تنظيمات سياسية أو اجتماعية؛ فقد غابت المدينة وظل أهالي الريف.

عانى الفلسطينيون في الداخل شتى أصناف التمييز العنصري، والقهر العسكري والملاحقات الأمنية، وحصاراً اقتصادياً لا تزال ظلاله تخيم على واقعهم حتى يومنا هذا. تشظّى المجتمع الفلسطيني الذي عرفوه، واستيقظوا ليجدوا أنفسهم تحت سلطةٍ لا يعرفون لغتها ولا ثقافتها، لكنهم صمدوا. سكتوا على أوجاعهم. وانتظروا. لم يأتهم الفرح من محيطهم العربي الذي تغنّى بفلسطين، لكنه نسي أهلها، قبل أن يصل التغني بفلسطين من دون أهلها الصابرين، حدّ التنكر لهم والتشكيك في عروبتهم وانتمائهم.

غير أن أهل فلسطين وأصحاب البلاد، صمدوا وعادوا لاستعادة هويتهم ولغتهم وثقافتهم. نهضوا من تحت الرماد، كطائر العنقاء الأسطوري، وباتوا اليوم رأس الحربة في مقارعة الاحتلال، وصارت النكبة، لكل أبنائهم في الجيل الثاني والثالث، نكبتهم بعدما كانت نكبة الشعب الفلسطيني.

بعد 66 عاماً لم يعد خطابهم "تضامنياً" فقط، بل أصبحوا هم المنكوبون، أبناء الأرض وأهلها؛ هم "الباقون لانتظار العائدين". القابضون على الجمر، في الجليل والمثلث والنقب.

يقول أستاذ التاريخ في الجامعة المفتوحة، البروفيسور مصطفى كبها، الذي وضع عدة كتب حول الرواية الشفهية لفلسطين وبناء الذاكرة فيها، لـ"العربي الجديد": "المهم في سياق فلسطينيي الداخل هو كيف يُنظرُ إليهم وكيف ينظرون. لقد عادوا اليوم بعد 66 عاماً إلى أنفسهم. هم جزء من الشعب الفلسطيني والأمّة العربية. يعيشون في ظل كيان سياسي لا يعرف نفسه، فيما يعرفون جيداً طموحاتهم الوطنية والقومية".

يؤكّد كبها أنّ كلّ محاولات التفرقة ودقّ الأسافين وتفتيت المجتمع الفلسطيني إلى طوائف لم تفلح في ضرب الهوية الفلسطينية، بل تعززت هذه الهوية، خصوصاً في ظل الثورة التكنولوجية والإعلامية، بعدما أطلّ الفلسطينيون على العالم العربي عبر هذه الثورة، كما أطلّ العالم العربي عليهم.

وتتحدث النائب حنين زعبي عن "التجمع الوطني الديمقراطي" لـ"العربي الجديد"، عن خصوصية الصراع بين فلسطين وإسرائيل في الداخل المحتلّ، وتقول إن "كولونيالية إسرائيل ترانا غزاة، بينما هي لا ترى الفلسطينيين في مناطق احتلال عام 67، غزاة. وإذا كانت تدير صراعاً مع شعبنا في المناطق المحتلة، فهي على الأقل تعترف بهويتهم الفلسطينية، بكيانهم كشعب، وبعدم إمكانية إعادة تشكيل هويتهم. أما بالنسبة إلينا، فالصراع هو على الأرض، على علاقتك بالأرض، أي على علاقة الانتماء بالوطن والحق فيه، وعلى هويتنا وتاريخنا. أي أننا نعيش حالة حصار كاملة، وجودية ونفسيّة، وهوية، وما تشاء".

وتضيف زعبي: "لقد نجحنا في الداخل، في كسر حدود تعريف اسرائيل للديمقراطية، للعدوّ، للصديق، للواجبات، للحقوق، فنحن نعتبر مواطنة إسرائيل مواطنة عنصرية، فيها تُجري الدولة عملية مقايضة ما بين هويتنا وحقوقنا المدنية، ونحن نرفض هذا التعريف، ونعيد تعريف المواطنة على أساس المساواة الكاملة مع اليهود، ونعرف أن مجرّد المطالبة والنضال من أجل المساواة الحقيقية هي عملية مناهضة كاملة للصهيونية ولمشروع الدولة اليهودية المبني على أساس إعطاء امتيازات عنصرية لليهود على حساب الفلسطينيين".

وترى الباحثة في علم الاجتماع، هبة يزبك في حديثها مع "العربي الجديد" أن الدراسات تشير الى أن الفلسطينيين في الداخل يغلّبون المركّب الفلسطيني بمفهوم الانتماء العام على العديد من المركّبات الأخرى للهوية، وهذا نابع من منطلقات سياسيّة كما من شعور بالانتماء الطبيعي للأرض والوطن والشعب. أما مسار الحلول السياسيّة للصراع فهي لا تتعلق بالفلسطيني وطموحاته فقط، وفق يزبك، بقدر تعلّقها بالجانب الإسرائيلي وأطراف دولية أخرى، تفرض الحلول وتحاول تقليص المشروع الوطني الشامل.

وتتابع أنه "لا شك في أن الفلسطينيين يرون أنفسهم جزءاً من الشأن الفلسطيني العام، وهناك رفض واضح لمحاولات التقسيم على أساس جغرافي، وهذا ليس بجديد؛ فالفلسطينيون داخل فلسطين المحتلة ملتزمون أيضاً بالثوابت الوطنية الفلسطينية. الفارق الآن هو الإمكانات التي تتيح ترميم التواصل بين أبناء الشعب الواحد (حتى الافتراضي منه)، والظاهر أنّ عملية بناء الوعي والنهوض بالذات في تراكم مستمر، والتي تجري ترجمتها من خلال تواريخ وأحداث مفصليّة يكون فيها النشاط شاملاً وقاطعاً للحدود ومعبّراً عن مصير شعب (على سبيل المثال لا الحصر: ذكرى النكبة، يوم الأرض، قضايا الاسرى وغيرها)".

المقاومة بالأدب
وإذا كانت الدراسات والأبحاث تتحدث عن الصمود والبقاء، فإنّ تخوم الأدب تشهد هي الأخرى على تمكّن فلسطيني الداخل من الخروج من دائرة "فعل الصمود العادي والمجرد" إلى دائرة "الإبداع الأدبي الرفيع" رغبة في الوصول إلى الإبداع الإنساني ككل. ويقول الكاتب والأديب سلمان ناطور لـ"لعربي الجديد" "إننا نقف اليوم في مكان نستطيع منه التأثير؛ فقد بات الجميع يعمل من أجل التواصل بين الداخل الفلسطيني والخارج. وبات واضحاً أن القطيعة مع الأمة العربية انتهت. نحن نتحدث اليوم عن وحدة الثقافة الفلسطينية، وعن فضاءاتنا المفتوحة أمامنا، بدءاً من فضائنا الفلسطيني، وفضائنا العربي وصولاً الى الفضاء العالمي والإنساني. وقد نجحنا في تثبيت موقعنا وأقدامنا في هذه الفضاءات. علينا ألا ننسى أن ثقافة وأدب المقاومة انطلقت من هنا؛ من الداخل. من أعمال محمود درويش وإميل حبيبي وتوفيق زياد وسميح القاسم وراشد حسين، في الأدب، وهاني أبو أسعد وإيلي سلمان في الفن والمسرح".

ويرى ناطور أنه يجب التوقف عن "البكائيات والإحساس بالضعف لجهة العطاء الثوري، فلسنا مرفّهين مثل أدباء السويد والنرويج مثلاً، نحن نحمل ونمثّل قضيةً وجوديةً وإنسانيةً وأخلاقيةً، علينا حملها بتفاؤل وبهمم عالية وروح ثورية تعكس دور المثقف الحقيقي والمبدع".

ويؤكد الأديب الفلسطيني أن "الجيل الجديد؛ الجيل الثالث للنكبة اليوم، يحمل هويته الفلسطينية الخالصة. يذكر النكبة ويعرفها بروايتها الفلسطينية وليس برواية إسرائيلية مشوّهة، وهذا بحدّ ذاته انتصار لأنها ذاكرة لا تقوم على الموت والعدائية، بقدر ما تقوم على الأمل بالحياة والعودة، خلافاً لما حدث في إسرائيل التي تقوم ذاكرتها على الموت والعنف منذ متسادا (القلعة) مروراً بالهولوكوست".

التهجير متواصل
إلى جانب هذا الثبات، فإن الفلسطينيين في الداخل يواجهون سياسات عنصرية متواصلة ومخطّطات للترحيل، والتطهير، كما هو الحال في النقب، حيث تسعى حكومة الاحتلال إلى ترحيل 40 ألف فلسطيني في النقب عن أراضيهم ومصادرة نحو مليون دونم من الأراضي، وذلك بموازاة تكثيف مخططات تهويد الجليل، والمثلث، عبر سَنّ مختلف القوانين، إذ أحصى مركز "عدالة"، على سبيل المثال، 55 قانوناً عنصرياً ضد فلسطينيي الداخل.

وشهد العقد الأخير مواجهة ضارية مع السلطة منذ هبّة القدس والأقصى، إذ قتلت حينها دولة الاحتلال 13 شهيداً خرجوا للتظاهر احتجاجاً على اقتحام شارون للأقصى في أكتوبر/تشرين الأول العام 2000. وتحوّل الاقتحام الى انتفاضة فلسطينية ثانية، زادت بَعدَها دولة الاحتلال من هجومها على هوية الفلسطينيين في الداخل، وأجّجت من سعيها المحموم لتثبيت يهودية الدولة، ردّاً على رفض فلسطينيي الداخل لهذه الصيغة العنصرية.

ليست هناك تعليقات: