المشهد الديمغرافيّ لمدينة القدس.
في مدينة القدس، هناك محاولة بحث لا تعتمد المدونات، بل: الأرض، الطوبوغرافية والعلم والإحصاءات...
في مدينة القدس، هناك محاولة بحث لا تعتمد المدونات، بل: الأرض، الطوبوغرافية والعلم والإحصاءات...
موقع القدس
قامت مدينة القدس في مكانها الحالي منذ الألف الثالث قبل الميلاد على أربعة جبال:
جبل موريا (المختار): ويقوم عليه الحرم الشريف.
جبل صهيون (النبي داود): بنيت عليه القدس اليبوسية.
جبل بيزيتا (بيت الزيتون): قرب باب الساهرة اليوم.
جبل أكرا: وتقوم على سفوحه كنيسة القيامة.
وتحيط بها مجموعة أخرى من الجبال امتدت إليها المدينة منذ مطلع هذا القرن، وأهمها جبل الزيتون في الشرق وسكوبس في الشمال والمكبر وأبو غنيم في الجنوب.
التشكيل الطوبوغرافي اليبوسي العربي للمدينة.
تفرّدت منذ القديم بمزية أعطتها المهابة والقداسة، فإلى جانب انحدارٍ سحيق ينخفض حتى منسوب 450م تحت سطح البحر، باتجاه البحر الميت، ترتفع خطوط تسوياتها حتى منسوب 800م فوق سطح البحر.
أنشأها اليبوسيون العرب منذ خمسة آلاف عام، فمنحوها اسمهم ونسبة إلى إلههم سالم، سميت بأور سالم أي مدينة سالم. وطوع اليبوسيون طوبوغرافية مدينتهم العصية، باستخدام مصاطب متدرجة بنيت من أحجار ضخمة، استخدمت كمساحات مستقرة لبناء بيوتهم، ودعامات لأسوار المدينة. وعلى الرغم من انهيار هذه الدعامات فقد عثر الأركيولوحيون على أجزاء هامة منها.
ومما يدهش حقاً حفرهم لنفقٍ يمتد من نبع (جيحون) في منحدرات السطح الشرقي إلى بركة (سلوان) في السفح الغربي، وتحت مدينتهم بطول 510 أمتار. وبسبب الموقع المتوسط للمدينة والمنطقة باعتبارها معبراً تجارياً، تعرضت لأكثر من اجتياحٍ خلال تاريخها الطويل الأمر الذي يبدل من طوبوغرافيتها وتشكيلها الديمغرافي، ولكنها ما أسرع ما تعود إلى وجهها العربي الأصيل.
دحض التشكيل الطوبوغرافي اليهودي للقدس بحسب الادّعاءات التوراتية
تتحدث التوراة عن استيلاء داود على القدس اليبوسية، وامتدادها باتجاه الخطوط الطوبوغرافية العلوية للمدينة؛ لتعطيها اسم مدينة داود. وتزعم التوراة امتداد المدينة في عصر ابنه سليمان حتى قمة الجبل حيث تدّعي إقامة هيكله المزعوم. لكن التنقيبات الأثرية، التي قام بها علماء آثار، يهود ومستشرقون غربيون منذ أكثر من مائة عام، لم تشِرْ إلى وجود حقبة دولة، ولا إلى آثار لهيكل مزعوم، وما عثر عليه لا يزيد عن حجارة خشنة مغطاة بالطين، وبعض أساسات المصاطب المنهارة وهي تعود إلى العصر اليبوسي العربي.
تروي مصادر التاريخ الغربية ومعظمها يعتمد التوراة كمراجعة، تسلسلاً تاريخياً يبتدئ بالسبي البابلي وينتهي بتدمير مدينتهم ومعابدهم وتشتيتهم خلال فترة الحكم الروماني.
ما يعنينا في هذا البحث، ما يقدّمه علم الآثار ودراساته، حول التبدلات الطبوغرافية المكانية، للأحداث الجارية خلال هذه الحقبة. هناك إشارات وأدلة من خلال نصوص نينوى وبابل وكذلك النصوص المصرية، إلى تبديل ديمغرافي أساسي طرأ على مدينة القدس، حيث تدفقت على المدينة أعداد كبيرة من اليهود، إضافة إلى أقليات مصرية وفارسية ويونانية ورومانية، استوطنت التلال الغربية للمدينة، وعلى الرغم من ذلك فإنّ براهين عديدة تدل على بقاء اللغة الآرامية العربية سيدة الموقف في كامل المنطقة.
ومن هنا تعاملت الأبحاث الأركيولوجية مع الوضع الاستيطاني اليهودي في تلك الحقبة على أرضية أحداث شغب وفتن، لتصل إلى العصيات وتجاوزت ذلك، لتعطيه حدود الحكم الذاتي الذي منح للمدينة أحياناً ولم يعطِ هذا الاستيطان الوضع الحقوقي للدولة، كما نفت تلك الأبحاث وجود آية أدلة على تشكل طوبوغرافية يهودية للمدينة. وتبرز هنا إشكالية (هيرود) الكبير.
التشكيل الطوبوغرافي الهيرودي للقدس
عين الرومان هيرود حاكماً على اليهودية، فاتخذ من القدس عاصمة له، سنة 37 ق.م. وتتحدث المصادر التاريخية عن هويته: رومانيّ في انتمائه هيلينياً في أفكاره، يهوديّ في ظاهر ديانته، باعتبار أنّه يمتّ إلى الأدوميين سكان عسقلان الذين أُكرِهوا على الدخول في الدين اليهودي بحد السيف خلال الحقبة المكانية.
اعتمد هيرود إنشاء طوبوغرافية رومانية للمدينة شأنه في ذلك شأن الحكام والأباطرة في سائر أرجاء الإمبراطورية الرومانية. فالمعبد الضخم الذي أشاده على الموقع الذي تشغله حالياً ساحة الحرم الشريف، أقامه على دعامات ومصاطب حجرية هائلة حيث زادت ارتفاعات بعض الأساسات على ارتفاع 40 متراً وذلك من أجل تحمل الكميات الهائلة من الردميات من جهة، ولترويض عناصر الطوبوغرافية الطبيعية لمنحدرات الموقع من جهة أخرى. والمنصة المشادة من قبله، تقارب المنصة الحالية للحرم الشريف. لم يبق للمعبد أثر، فالأبحاث الأركيولوجية تشير إلى بقايا التأسيسات والتدعيمات للمنصة، في جانبيها الجنوبي والغربي..
بنى هيرود قلعة ضخمة شمالي معبده، وأجزاؤها السفلية ما تزال موجودة، مما يسمى اليوم ببرج داود، ويمكن أنْ يكون أحد الأبراج الثلاثة التي وصفها المؤرخ يوسفيوس. كما بنى قصراً في الجانب الغربي من المدينة إضافة إلى حمامات ومسرح. ويمكن تلمّس بعض آثار هذه المنشآت، وهي تشير إلى الطرازين اليوناني والروماني المألوفين، ولم يعثرْ على أية آثار تدل على خلفية يهودية.
لقد توسعت في هذا البحث لأهميته، حيث إنّ كلّ الادّعاءات اليهودية هي محاولة مصادرة الطوبوغرافية الهيرودية الرومانية، وإيهام العالم بأنها تعود إلى عهود سحيقة، عبر الصياغة التوراتية للتاريخ والطوبوغرافيا.
لم تعمر قدس هيرود طويلاً، فقد تسلل اليهود إلى معبدها بعد موت (هيرود) فصبغوا المعبد بصبغتهم، وانقضّوا على الحامية الرومانية فيها، وهذا ما استدعى قيام (تيطس) عام 70 ميلادية، إلى إخماد انقلاب اليهود. ولدى تكرر ذلك، هاجمهم (هادريان) عام 132 ميلادية فدمر المدينة بما في ذلك المعب، وشتّت يهودها، وأصدر مرسوماً بتحريمها عليهم. ثم أنشأ على أنقاضها مدينة جديدة أسماها (إيليا) نسبة إلى اسمه (إيليا هادريان)، تقارب حدودها حدود (المدينة القديمة) الحالية، مبقياً على المنصة الحالية للحرم الشريف، مشكّلاً تبديلاً طوبوغرافيا للمدينة إضافة للتبديل الديموغرافي الناشئ عن إقصاء اليهود عن المدينة.
إعادة التشكيل الطوبوغرافي العربي للقدس
في إشارات ودلالات قوية، انطلق السيد المسيح من الناصرة ماراً بجبل الزيتون، متّجهاً إلى قلب القدس وروحها، لتحقيق خلاصها من اليهودية، وخلال القرون الثلاثة التالية من عهد قسطنطين وحتى الفتح العربي الإسلامي كانت الطوبوغرافية المبينة للمدينة عبر أربع من أعلى نقاطها تحت إطلالة أربعة معالم مسيحية عربية بارزة..
وفي إشارات ودلالات قوية مماثلة، يتحقق الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى لإعطاء المشهد تضمينات سياسة واضحة. وخلال خمسين عاماً، فقط، يتعاقب الخلفاء العظام لترسيم طبوغرافيا عربية للمدينة. ففي عام 637ميلادية، يدخل عمر القدس، موطّداً شراكه كاملة، محدّداً المنصة الهيرودية -حرماً شريفاً- تضم الصخرة والمسجد الأقصى.
وفي عام 661 ميلادية، يأخذ معاوية البيعة من زعماء المسلمين والمسيحيين على السواء على أرض الحرم الشريف. في سابقة هي الأولى من نوعها: اقتران القدس بمنح الشرعية للسلطة.
وما بين 692 ميلادية و702 ميلادية، يقوم عبد الملك بن مروان وابنه الوليد، بتوطيد التشكيل الطوبوغرافي العربي للمدينة على الأرض وبالحجر، بإعادة بناء المنصة المنشأة أساساتها من قبل هيرود الكبير، وقبة الصخرة والمسجد الأقصى، وبذلك يكتمل المشهد الساحر للمدينة الذي ينطق بحس تناسق التصميم والتوظيف المدهش للألوان..
وقد استمر هذا التشكيل الطوبوغرافي والديمغرافي للمدينة حتى عام 1099 ميلادية عندما اجتاحتها الحملة الصليبية؛ التي خاض فيها الصليبيون الفرنجة الدماء حتى الركب، في المسجد الأقصى، وتحت أقدامهم سبعون ألف جثة.. لقد أزالوا الشارات العربية: المسيحية والإسلامية عن المدينة وأعلنوا القدس عاصمة للملكة اللاتينية.
وخلال أيام معدودة، تبدلت ديمغرافية المدينة وامتلأت طرقاتها وأحياؤها بالمحاربين وقد قدِموا تحت أقنعة دينية كاذبة. فإذا هم خليط من تجار جنوة والبندقية ورهبان عسكريون وحشود من ميلشيات الداوية والإسبارتية ورعايا ملوك إنكلترا وفرنسا..
لم تطل الأمور، 88 عاماً فقط، يعود صلاح الدين محرّراً المدينة معيداً ما تهدّم من أسوارها وأبراجها وبواباتها، مدشّناً المدارس والزوايا والمستشفى الكبير، ثم يولي اهتمامه لإعادة ترميم وتزيين المسجد الأقصى وقبة الصخرة، لتستعيد القدس مشهدها الطوبوغرافي العربي الأصيل، إضافة إلى عودة سيادة العرب الديمغرافية على المدينة.
ويتابع سلاطين المماليك ما بدأه صلاح الدين، فيتألّق الطراز المعماري العربي الإسلامي على المنشآت المختلفة في المدينة، ولضيق المدينة على سكانها، فقد قاموا بردم الوادي الملاصق للجدار الغربي للحرم الشريف -حائط البراق- بإنشاء عقود ضخمة جرى ردمها من الأعلى، من أجل توسيع الأحياء المبنية بجوار الحرم الشريف... والنفق الذي أحدث انتفاضة 1996 هو الفراغ الذي تشغله من الأسفل هذه العقود..!
ثم يكمل السلطان سليمان القانوني، آخر مشهد للطبوغرافية العربية لمدينة القدس، بإعادة تشييد أسوار المدينة وعماراتها.. وقد بقيت أعمال هذا السلطان العظيم شاهدة على عروبة القدس حتى مطلع هذا القرن..
الطبوغرافية اليهودية للقدس "التهويد"
لم يسلم الغرب بخسارة معركة القدس أمام صلاح الدين، فمع صعود ظاهرة الاستعمار وتراجع الدولة العثمانية، بدأ يستعد للرجوع إلى الشرق، باستخدام جسور جديدة أهمها الاستيطان اليهودي لفلسطين.
تلقفت اليهودية العالمية هذه الإشارة، فتلاقت الأهداف فمصالحهما لا تتناقض، وكانت ولادة الصهيونية -الحركة السياسية ليهود العالم- من رحم الغرب ومصالحه.
ولأن السيطرة على القدس تضفي الشرعية على السلطة، كانت القدس مدخلاً للسيطرة على كامل المنطقة.. وعلى هذا الاعتبار، فقد تمكن الممول البريطاني اليهودي المشهور موسى مونتفيوري من الحصول على فرمان من السلطان العثماني عبد المجيد الأول عام 1855، لشراء أول قطعة أرض خارج سور المدينة القديمة لغرض إقامة مستشفى، تحوّلت إلى حي مونتفيوري -حجر الأساس للقدس الغربية. ولم تمضِ سنة 1892 حتى أصبحت الأحياء اليهودية غرب المدينة القديمة ثمانية أحياء، وأضحى اليهود يشكّلون ثلثيْ سكان مدينة القدس، وفي 11 كانون الأول 1917، أيْ بعد مرور أربعين يوماً على إصدار بريطانيا لوعد بلفور، دخل الجنرال اللبني مدينة القدس، وفي مقدّمة جيشه الفيلق اليهوديّ الذي تشكّل في مدينة الإسكندرية، إنها محاولة، بل مشروع لرسم طوبوغرافية جديدة للقدس كوطن قومي يهودي بحراسة الحراب البريطانية.
وعندما تشكّلت الإدارة المدنية البريطانية في القدس في الأول من تموز 1920 تسلم يهود بريطانيون الوظائف العامة، كما عهد لفنيين يهود مهندسين ومساحين بإدارة الأجهزة الفنية لتسهيل انتقال الأراضي للمؤسسات والشركات اليهودية. وتحت حماية السلطة المنتدبة ودعمها قامت هياكل سياسية لتكوين البنية المدينة للدولة اليهودية.
ومما يُحزِن أنّ العرب لم يكونوا يدركون أبعاد ما يجري، وأن المؤسسات العلمية اليهودية كالأليانس والتحتيون والجامعة العبرية كانت تسعى للتحضير لمجتمع يهودي يتسلّح بالعلم والتكنولوجيا، وإنتاج نوعيّ لا يعتمد عدد السكان وتوفر المواد الخام.
ففي افتتاح الجامعة العبرية في الأول من نيسان عام 1925 على جبل سكوبس، اشتركت الفعاليات الفلسطينية والعربية بامتياز في هذا الافتتاح. واستمر صعود المؤسسات اليهودية التي تتلقى الدعم من كل أنحاء العالم من الغرب والشرق، وأخذت الأراضي العربية بالتآكل ثانية بعد ثانية، والعرب يعيشون (عقلية بكرة) التي لا تتحدد بعملٍ ولا بزمن حتى عشية الخامس عشر من أيار 1948، وإذ بالدولة اليهودية تُعلَن، وتنتهي مسرحية الحرب الصورية، وتسقط القدس الغربية بكاملها في أيدي اليهود: ومساحتها 21310 دونمات، ويبقى للعرب في القدس الشرقية 2220 دونماً، أي 9% وضمنها القدس القديمة، وتبقى مساحة 850 دونماً منطقة للأمم المتحدة، مع إبقاء جبل سكوبس تحت السيادة "الإسرائيلية"، وتتوضع عليه الجامعة العبرية ومستشفى هداسا.
وهكذا تتحقق سيطرة الدولة اليهودية على 91% من طوبغرافية القدس وتعاني القدس نتائج النكبة الكبرى في 5 حزيران 1967.. إنه يوم أسود لا يُنْسى في تاريخ القدس.. في يوم الأربعاء الواقع في 7 حزيران 1967 انطلق قائد الفرقة المظلية مردخاي غور بسيارته نصف المجنزرة من أمام فندق كونتيننال في أعلى جبل الزيتون باتجاه الحرم الشريف؛ حيث وصله بعد سبع دقائق فقط، وبوصوله أرسل رسالته المشهورة: "the temple mount is ours" أي "جبل الهيكل لنا"، وتسقط مدينة القدس.. وتبدأ الدولة اليهودية باستكمال السيطرة على طوبوغرافية المدينة وإخلائها من سكانها العرب...
لجأت الدولة اليهودية إلى قصف المدينة خارج السور وداخله لثلاثة أيام متتالية على الرغم من انسحاب القوات الأردنية منها، وانعدام المقاومة فيها.. وقد تم تدمير آلاف الأبنية وتهجير سكانها بعشرات الآلاف.
لقد باشر اليهود أعمال الهدم والنسف، وسوّت الجرافات بالأرض حي المغاربة؛ ذلك الحي الذي بناه صلاح الدين للمرابطين المغاربة الذين قاتلوا لاستعادة القدس من الصليبين، وطالت أعمال التهديم حي (الشرف والسلسة) ومنازل كثيرة..
وبتاريخ 28/6/1967م أصدر الكنيست "الإسرائيلي" قانوناً وحّد المدينة تحت السيادة اليهودية بعد أنْ وسّع حدود المدينة من 38000 دونم إلى 106000 دونم، وذلك لتهويد ما تبقّى من المدينة إضافةً إلى ابتلاع القرى والضواحي العربية في محيط المدينة.
وفي إطار سياسة التهويد الداخلية نقلت الحكومة "الإسرائيلية" مقرها إلى الممتلكات العربية المصادرة في القدس الشرقية، وربطت شبكات المياه والكهرباء والهاتف بالشبكات المركزية اليهودية.
وفي إطار التبديل الطوبوغرافي للمدينة، بدأت الحكومة "الإسرائيلية" بنزع عروبة المعمار، أو الطراز المعماري العربي بهدم كلّ دلالة تشير إلى الثقافة والتاريخ العربي الإسلامي، فأزالت كافة الأحياء الملاصقة للحرم الشريف، وتشمل أبنية مساجد ومدارس، وبيوت أثرية.. وذلك من أجل التنقيب عن آثار لادعاءات مزعومة، وحولت مساحات واسعة إلى حدائق وممرات مشاة لتخديم المدينة اليهودية الموحدة.
وقد أوجدت الحكومة "الإسرائيلية"، وفق نظامها الخاص بها، الأسس التي تستند إليها في مصادرات واسعة النطاق تحت عنوان "التطوير في البناء المدني":
1. صادرت في الفترة الواقعة ما بين 1968 و1970؛ 15000 دونم أرض في القدس الشرقية لكي تقام فوقها أحياء سكن جديدة.
2. صادرت في الفترة الواقعة ما بين 1973 و1976؛ 90000 دونم أراضي في القرى المحيطة بالقدس من الشمال والشرق والجنوب. إضافةً إلى عشرة آلاف دونم في مناطق متفرقة.
3. صادرت عام 1980م حوالي 4000 دونم في القسم الشمالي على الطريق الرئيسية إلى رام الله، وقد مكّنتها المصادرات ومجموعها 119000 دونم لإقامة أربعة أحزمة استيطانية فوق المنطقة الموسعة لمدينة القدس..
الحزام الأول: ويتلخص اعتباره السياسي في تطويق قلب المدينة المكتظ بالسكان العرب، ببناء أحياء يهودية تؤدّي إلى فك ارتباط الأحياء فيما بينها، والسيطرة الاستراتيجية على المناطق المرتفعة فوق التلال إضافة إلى خلق أكثرية سكانية يهودية في المدينة. وقد جرى إشادة أربعة أحياء: رامات أشكول؛ جيفات هاميفتار؛ التلة الفرنسية؛ امتداد سانهدريا، ثم توسيعها إلى الشرق لتتصل بمباني الجامعة العبرية وإلى الغرب بإقامة حي نهلات دفنا، وراموت. وبذلك يقدّم هذا الحزام مجموعة مساكن لـ65000 مستوطن يهودي، مع مساكن لحوالي 14000 طالب في الجامعة العبرية. وقد قطع هذا الحزام كلّ اتصالٍ بمدينتيْ رام الله والبيرة، وحاصر قرى شعفاط وبيت حنينا..
الحزام الثاني: بطول ثلاثة كيلومترات من الواحدات السكنية المتصلة، وذلك إلى الجنوب من المدينة تل بيوت، وجوار بيت صفافا "جبلو" وباتصاله بالمستوطنات التي تجري إشادتها في محيط وعلى جبل أبي غنيم... يقدم هذا الحزام مساكن لـ120000 مستوطن يهودي. مع مجمعات سياحية وفنادق يصعب حصر مساحاتها.. مهمة هذا الحزام قطع الاتصال مع مدينتي بيت لحم والخليل ودمج قرية بيت صفافا بالقدس اليهودية.
الحزام الثالث: في أقصى شمال القدس الموسعة، ويضم منشآت ومباني ووحدات سكنية -مطار القدس الدولي- إضافة إلى المنطقة الصناعية "عتاروت".. والضاحية نيفي يعقوب وعناتوت وهي تخدم مركزياً كامل المدينة الموسعة للقدس.
الحزام الرابع: على بعد 14كم شرقي المدينة، ويشمل مستوطنات معاليه أدوميم (الخان الأحمر) لعزل المدينة عن المحيط الشرقي وقطع الاتصال عن مدينة أريحا.. وتتضمن مناطق الصناعة الثقيلة في "إسرائيل" كالصلب والحديد، والمباني الجاهزة والصناعات العسكرية..
القدس الكبرى:
وقد بدأت الدولة "الإسرائيلية" بالمصادرات في نطاق "القدس الكبرى" حيث ستتم عملية ابتلاع المدن العربية الممتدة في محيط مدينة القدس: رام الله والبيرة، وبيت جالا وبيت لحم وبيت ساحور مع ما مجموعه 60 قرية عربية في منطقة يعيش فيها اليوم حوالي 120000 عربي.
وفي الإطار الديمغرافي للمدينة تدلّ الإحصاءات الأخيرة على أنّ ما بقِيَ من عرب في مدينة القدس لا يتجاوز 200000 نسمة، منهم أربعون ألفاً في المدينة القديمة والباقي في القدس الشرقية 160000 نسمة و120000 نسمة في محيط وفناء مدينة القدس يقابلهم ما مجموعه ستمائة ألف نسمة من اليهود في نطاق القدس الموسعة الكبرى، وهذا ما تهدف إليه المخططات اليهودية.
وبعد، هل هو درس في التاريخ هذا الحديث أو من التاريخ!!.. منذ وضع (موسى مونتفيوري) حجر الأساس منذ 145 عاماً، لمشروع: الطوبوغرافية اليهودية لمدينة القدس، وكل يوم أرضٌ تضيع وكل يوم تتبدل الطوبوغرافية على الأرض..
وما 28 أيلول سنة 2000 ببعيد، يوم صعد شارون منصة الحرم الشريف يعلن رسم المشهد الأخير للطوبوغرافية اليهودية لمدينة القدس بتضمينات سياسية وعسكرية، فالقدس مقترنة دائماً بإضفاء الشرعية على السلطة...
مصادر البحث
1. قضية القدس: د. خيرية قاسمية.
2. تهويد القدس: نجيب الأحمد.
3. القدس: سمير جريس.
4. قصة مدينة القدس: يحيى الفرحان.
5. الكتاب المقدس والمكتشفات الآثارية الحديثة –كاتلين-كينون، ترجمة: شوقي شعث- سليم زيد.
6. استراتيجية الاستيطان الصهيوني: حبيب قهوجي.
7. الصليبيون في الشرق ميخائيل زابوروف.
8. لقد اغتصبتمونا أرضنا: فكتوريا والتز- يواخيم شيشا ترجمة م. نصار.
9. رشيد الخالدي- مجلة الكرمل.
10. شؤون فلسطينية.
11. دراسات فلسطينية.
12. التوراة وقاموس الكتاب المقدس.
13. الصليبيات: الدكتور شاكر مصطفى– محاضرة.
المصدر: من ندوة المهندس رياض زيد- دمشق
قامت مدينة القدس في مكانها الحالي منذ الألف الثالث قبل الميلاد على أربعة جبال:
جبل موريا (المختار): ويقوم عليه الحرم الشريف.
جبل صهيون (النبي داود): بنيت عليه القدس اليبوسية.
جبل بيزيتا (بيت الزيتون): قرب باب الساهرة اليوم.
جبل أكرا: وتقوم على سفوحه كنيسة القيامة.
وتحيط بها مجموعة أخرى من الجبال امتدت إليها المدينة منذ مطلع هذا القرن، وأهمها جبل الزيتون في الشرق وسكوبس في الشمال والمكبر وأبو غنيم في الجنوب.
التشكيل الطوبوغرافي اليبوسي العربي للمدينة.
تفرّدت منذ القديم بمزية أعطتها المهابة والقداسة، فإلى جانب انحدارٍ سحيق ينخفض حتى منسوب 450م تحت سطح البحر، باتجاه البحر الميت، ترتفع خطوط تسوياتها حتى منسوب 800م فوق سطح البحر.
أنشأها اليبوسيون العرب منذ خمسة آلاف عام، فمنحوها اسمهم ونسبة إلى إلههم سالم، سميت بأور سالم أي مدينة سالم. وطوع اليبوسيون طوبوغرافية مدينتهم العصية، باستخدام مصاطب متدرجة بنيت من أحجار ضخمة، استخدمت كمساحات مستقرة لبناء بيوتهم، ودعامات لأسوار المدينة. وعلى الرغم من انهيار هذه الدعامات فقد عثر الأركيولوحيون على أجزاء هامة منها.
ومما يدهش حقاً حفرهم لنفقٍ يمتد من نبع (جيحون) في منحدرات السطح الشرقي إلى بركة (سلوان) في السفح الغربي، وتحت مدينتهم بطول 510 أمتار. وبسبب الموقع المتوسط للمدينة والمنطقة باعتبارها معبراً تجارياً، تعرضت لأكثر من اجتياحٍ خلال تاريخها الطويل الأمر الذي يبدل من طوبوغرافيتها وتشكيلها الديمغرافي، ولكنها ما أسرع ما تعود إلى وجهها العربي الأصيل.
دحض التشكيل الطوبوغرافي اليهودي للقدس بحسب الادّعاءات التوراتية
تتحدث التوراة عن استيلاء داود على القدس اليبوسية، وامتدادها باتجاه الخطوط الطوبوغرافية العلوية للمدينة؛ لتعطيها اسم مدينة داود. وتزعم التوراة امتداد المدينة في عصر ابنه سليمان حتى قمة الجبل حيث تدّعي إقامة هيكله المزعوم. لكن التنقيبات الأثرية، التي قام بها علماء آثار، يهود ومستشرقون غربيون منذ أكثر من مائة عام، لم تشِرْ إلى وجود حقبة دولة، ولا إلى آثار لهيكل مزعوم، وما عثر عليه لا يزيد عن حجارة خشنة مغطاة بالطين، وبعض أساسات المصاطب المنهارة وهي تعود إلى العصر اليبوسي العربي.
تروي مصادر التاريخ الغربية ومعظمها يعتمد التوراة كمراجعة، تسلسلاً تاريخياً يبتدئ بالسبي البابلي وينتهي بتدمير مدينتهم ومعابدهم وتشتيتهم خلال فترة الحكم الروماني.
ما يعنينا في هذا البحث، ما يقدّمه علم الآثار ودراساته، حول التبدلات الطبوغرافية المكانية، للأحداث الجارية خلال هذه الحقبة. هناك إشارات وأدلة من خلال نصوص نينوى وبابل وكذلك النصوص المصرية، إلى تبديل ديمغرافي أساسي طرأ على مدينة القدس، حيث تدفقت على المدينة أعداد كبيرة من اليهود، إضافة إلى أقليات مصرية وفارسية ويونانية ورومانية، استوطنت التلال الغربية للمدينة، وعلى الرغم من ذلك فإنّ براهين عديدة تدل على بقاء اللغة الآرامية العربية سيدة الموقف في كامل المنطقة.
ومن هنا تعاملت الأبحاث الأركيولوجية مع الوضع الاستيطاني اليهودي في تلك الحقبة على أرضية أحداث شغب وفتن، لتصل إلى العصيات وتجاوزت ذلك، لتعطيه حدود الحكم الذاتي الذي منح للمدينة أحياناً ولم يعطِ هذا الاستيطان الوضع الحقوقي للدولة، كما نفت تلك الأبحاث وجود آية أدلة على تشكل طوبوغرافية يهودية للمدينة. وتبرز هنا إشكالية (هيرود) الكبير.
التشكيل الطوبوغرافي الهيرودي للقدس
عين الرومان هيرود حاكماً على اليهودية، فاتخذ من القدس عاصمة له، سنة 37 ق.م. وتتحدث المصادر التاريخية عن هويته: رومانيّ في انتمائه هيلينياً في أفكاره، يهوديّ في ظاهر ديانته، باعتبار أنّه يمتّ إلى الأدوميين سكان عسقلان الذين أُكرِهوا على الدخول في الدين اليهودي بحد السيف خلال الحقبة المكانية.
اعتمد هيرود إنشاء طوبوغرافية رومانية للمدينة شأنه في ذلك شأن الحكام والأباطرة في سائر أرجاء الإمبراطورية الرومانية. فالمعبد الضخم الذي أشاده على الموقع الذي تشغله حالياً ساحة الحرم الشريف، أقامه على دعامات ومصاطب حجرية هائلة حيث زادت ارتفاعات بعض الأساسات على ارتفاع 40 متراً وذلك من أجل تحمل الكميات الهائلة من الردميات من جهة، ولترويض عناصر الطوبوغرافية الطبيعية لمنحدرات الموقع من جهة أخرى. والمنصة المشادة من قبله، تقارب المنصة الحالية للحرم الشريف. لم يبق للمعبد أثر، فالأبحاث الأركيولوجية تشير إلى بقايا التأسيسات والتدعيمات للمنصة، في جانبيها الجنوبي والغربي..
بنى هيرود قلعة ضخمة شمالي معبده، وأجزاؤها السفلية ما تزال موجودة، مما يسمى اليوم ببرج داود، ويمكن أنْ يكون أحد الأبراج الثلاثة التي وصفها المؤرخ يوسفيوس. كما بنى قصراً في الجانب الغربي من المدينة إضافة إلى حمامات ومسرح. ويمكن تلمّس بعض آثار هذه المنشآت، وهي تشير إلى الطرازين اليوناني والروماني المألوفين، ولم يعثرْ على أية آثار تدل على خلفية يهودية.
لقد توسعت في هذا البحث لأهميته، حيث إنّ كلّ الادّعاءات اليهودية هي محاولة مصادرة الطوبوغرافية الهيرودية الرومانية، وإيهام العالم بأنها تعود إلى عهود سحيقة، عبر الصياغة التوراتية للتاريخ والطوبوغرافيا.
لم تعمر قدس هيرود طويلاً، فقد تسلل اليهود إلى معبدها بعد موت (هيرود) فصبغوا المعبد بصبغتهم، وانقضّوا على الحامية الرومانية فيها، وهذا ما استدعى قيام (تيطس) عام 70 ميلادية، إلى إخماد انقلاب اليهود. ولدى تكرر ذلك، هاجمهم (هادريان) عام 132 ميلادية فدمر المدينة بما في ذلك المعب، وشتّت يهودها، وأصدر مرسوماً بتحريمها عليهم. ثم أنشأ على أنقاضها مدينة جديدة أسماها (إيليا) نسبة إلى اسمه (إيليا هادريان)، تقارب حدودها حدود (المدينة القديمة) الحالية، مبقياً على المنصة الحالية للحرم الشريف، مشكّلاً تبديلاً طوبوغرافيا للمدينة إضافة للتبديل الديموغرافي الناشئ عن إقصاء اليهود عن المدينة.
إعادة التشكيل الطوبوغرافي العربي للقدس
في إشارات ودلالات قوية، انطلق السيد المسيح من الناصرة ماراً بجبل الزيتون، متّجهاً إلى قلب القدس وروحها، لتحقيق خلاصها من اليهودية، وخلال القرون الثلاثة التالية من عهد قسطنطين وحتى الفتح العربي الإسلامي كانت الطوبوغرافية المبينة للمدينة عبر أربع من أعلى نقاطها تحت إطلالة أربعة معالم مسيحية عربية بارزة..
وفي إشارات ودلالات قوية مماثلة، يتحقق الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى لإعطاء المشهد تضمينات سياسة واضحة. وخلال خمسين عاماً، فقط، يتعاقب الخلفاء العظام لترسيم طبوغرافيا عربية للمدينة. ففي عام 637ميلادية، يدخل عمر القدس، موطّداً شراكه كاملة، محدّداً المنصة الهيرودية -حرماً شريفاً- تضم الصخرة والمسجد الأقصى.
وفي عام 661 ميلادية، يأخذ معاوية البيعة من زعماء المسلمين والمسيحيين على السواء على أرض الحرم الشريف. في سابقة هي الأولى من نوعها: اقتران القدس بمنح الشرعية للسلطة.
وما بين 692 ميلادية و702 ميلادية، يقوم عبد الملك بن مروان وابنه الوليد، بتوطيد التشكيل الطوبوغرافي العربي للمدينة على الأرض وبالحجر، بإعادة بناء المنصة المنشأة أساساتها من قبل هيرود الكبير، وقبة الصخرة والمسجد الأقصى، وبذلك يكتمل المشهد الساحر للمدينة الذي ينطق بحس تناسق التصميم والتوظيف المدهش للألوان..
وقد استمر هذا التشكيل الطوبوغرافي والديمغرافي للمدينة حتى عام 1099 ميلادية عندما اجتاحتها الحملة الصليبية؛ التي خاض فيها الصليبيون الفرنجة الدماء حتى الركب، في المسجد الأقصى، وتحت أقدامهم سبعون ألف جثة.. لقد أزالوا الشارات العربية: المسيحية والإسلامية عن المدينة وأعلنوا القدس عاصمة للملكة اللاتينية.
وخلال أيام معدودة، تبدلت ديمغرافية المدينة وامتلأت طرقاتها وأحياؤها بالمحاربين وقد قدِموا تحت أقنعة دينية كاذبة. فإذا هم خليط من تجار جنوة والبندقية ورهبان عسكريون وحشود من ميلشيات الداوية والإسبارتية ورعايا ملوك إنكلترا وفرنسا..
لم تطل الأمور، 88 عاماً فقط، يعود صلاح الدين محرّراً المدينة معيداً ما تهدّم من أسوارها وأبراجها وبواباتها، مدشّناً المدارس والزوايا والمستشفى الكبير، ثم يولي اهتمامه لإعادة ترميم وتزيين المسجد الأقصى وقبة الصخرة، لتستعيد القدس مشهدها الطوبوغرافي العربي الأصيل، إضافة إلى عودة سيادة العرب الديمغرافية على المدينة.
ويتابع سلاطين المماليك ما بدأه صلاح الدين، فيتألّق الطراز المعماري العربي الإسلامي على المنشآت المختلفة في المدينة، ولضيق المدينة على سكانها، فقد قاموا بردم الوادي الملاصق للجدار الغربي للحرم الشريف -حائط البراق- بإنشاء عقود ضخمة جرى ردمها من الأعلى، من أجل توسيع الأحياء المبنية بجوار الحرم الشريف... والنفق الذي أحدث انتفاضة 1996 هو الفراغ الذي تشغله من الأسفل هذه العقود..!
ثم يكمل السلطان سليمان القانوني، آخر مشهد للطبوغرافية العربية لمدينة القدس، بإعادة تشييد أسوار المدينة وعماراتها.. وقد بقيت أعمال هذا السلطان العظيم شاهدة على عروبة القدس حتى مطلع هذا القرن..
الطبوغرافية اليهودية للقدس "التهويد"
لم يسلم الغرب بخسارة معركة القدس أمام صلاح الدين، فمع صعود ظاهرة الاستعمار وتراجع الدولة العثمانية، بدأ يستعد للرجوع إلى الشرق، باستخدام جسور جديدة أهمها الاستيطان اليهودي لفلسطين.
تلقفت اليهودية العالمية هذه الإشارة، فتلاقت الأهداف فمصالحهما لا تتناقض، وكانت ولادة الصهيونية -الحركة السياسية ليهود العالم- من رحم الغرب ومصالحه.
ولأن السيطرة على القدس تضفي الشرعية على السلطة، كانت القدس مدخلاً للسيطرة على كامل المنطقة.. وعلى هذا الاعتبار، فقد تمكن الممول البريطاني اليهودي المشهور موسى مونتفيوري من الحصول على فرمان من السلطان العثماني عبد المجيد الأول عام 1855، لشراء أول قطعة أرض خارج سور المدينة القديمة لغرض إقامة مستشفى، تحوّلت إلى حي مونتفيوري -حجر الأساس للقدس الغربية. ولم تمضِ سنة 1892 حتى أصبحت الأحياء اليهودية غرب المدينة القديمة ثمانية أحياء، وأضحى اليهود يشكّلون ثلثيْ سكان مدينة القدس، وفي 11 كانون الأول 1917، أيْ بعد مرور أربعين يوماً على إصدار بريطانيا لوعد بلفور، دخل الجنرال اللبني مدينة القدس، وفي مقدّمة جيشه الفيلق اليهوديّ الذي تشكّل في مدينة الإسكندرية، إنها محاولة، بل مشروع لرسم طوبوغرافية جديدة للقدس كوطن قومي يهودي بحراسة الحراب البريطانية.
وعندما تشكّلت الإدارة المدنية البريطانية في القدس في الأول من تموز 1920 تسلم يهود بريطانيون الوظائف العامة، كما عهد لفنيين يهود مهندسين ومساحين بإدارة الأجهزة الفنية لتسهيل انتقال الأراضي للمؤسسات والشركات اليهودية. وتحت حماية السلطة المنتدبة ودعمها قامت هياكل سياسية لتكوين البنية المدينة للدولة اليهودية.
ومما يُحزِن أنّ العرب لم يكونوا يدركون أبعاد ما يجري، وأن المؤسسات العلمية اليهودية كالأليانس والتحتيون والجامعة العبرية كانت تسعى للتحضير لمجتمع يهودي يتسلّح بالعلم والتكنولوجيا، وإنتاج نوعيّ لا يعتمد عدد السكان وتوفر المواد الخام.
ففي افتتاح الجامعة العبرية في الأول من نيسان عام 1925 على جبل سكوبس، اشتركت الفعاليات الفلسطينية والعربية بامتياز في هذا الافتتاح. واستمر صعود المؤسسات اليهودية التي تتلقى الدعم من كل أنحاء العالم من الغرب والشرق، وأخذت الأراضي العربية بالتآكل ثانية بعد ثانية، والعرب يعيشون (عقلية بكرة) التي لا تتحدد بعملٍ ولا بزمن حتى عشية الخامس عشر من أيار 1948، وإذ بالدولة اليهودية تُعلَن، وتنتهي مسرحية الحرب الصورية، وتسقط القدس الغربية بكاملها في أيدي اليهود: ومساحتها 21310 دونمات، ويبقى للعرب في القدس الشرقية 2220 دونماً، أي 9% وضمنها القدس القديمة، وتبقى مساحة 850 دونماً منطقة للأمم المتحدة، مع إبقاء جبل سكوبس تحت السيادة "الإسرائيلية"، وتتوضع عليه الجامعة العبرية ومستشفى هداسا.
وهكذا تتحقق سيطرة الدولة اليهودية على 91% من طوبغرافية القدس وتعاني القدس نتائج النكبة الكبرى في 5 حزيران 1967.. إنه يوم أسود لا يُنْسى في تاريخ القدس.. في يوم الأربعاء الواقع في 7 حزيران 1967 انطلق قائد الفرقة المظلية مردخاي غور بسيارته نصف المجنزرة من أمام فندق كونتيننال في أعلى جبل الزيتون باتجاه الحرم الشريف؛ حيث وصله بعد سبع دقائق فقط، وبوصوله أرسل رسالته المشهورة: "the temple mount is ours" أي "جبل الهيكل لنا"، وتسقط مدينة القدس.. وتبدأ الدولة اليهودية باستكمال السيطرة على طوبوغرافية المدينة وإخلائها من سكانها العرب...
لجأت الدولة اليهودية إلى قصف المدينة خارج السور وداخله لثلاثة أيام متتالية على الرغم من انسحاب القوات الأردنية منها، وانعدام المقاومة فيها.. وقد تم تدمير آلاف الأبنية وتهجير سكانها بعشرات الآلاف.
لقد باشر اليهود أعمال الهدم والنسف، وسوّت الجرافات بالأرض حي المغاربة؛ ذلك الحي الذي بناه صلاح الدين للمرابطين المغاربة الذين قاتلوا لاستعادة القدس من الصليبين، وطالت أعمال التهديم حي (الشرف والسلسة) ومنازل كثيرة..
وبتاريخ 28/6/1967م أصدر الكنيست "الإسرائيلي" قانوناً وحّد المدينة تحت السيادة اليهودية بعد أنْ وسّع حدود المدينة من 38000 دونم إلى 106000 دونم، وذلك لتهويد ما تبقّى من المدينة إضافةً إلى ابتلاع القرى والضواحي العربية في محيط المدينة.
وفي إطار سياسة التهويد الداخلية نقلت الحكومة "الإسرائيلية" مقرها إلى الممتلكات العربية المصادرة في القدس الشرقية، وربطت شبكات المياه والكهرباء والهاتف بالشبكات المركزية اليهودية.
وفي إطار التبديل الطوبوغرافي للمدينة، بدأت الحكومة "الإسرائيلية" بنزع عروبة المعمار، أو الطراز المعماري العربي بهدم كلّ دلالة تشير إلى الثقافة والتاريخ العربي الإسلامي، فأزالت كافة الأحياء الملاصقة للحرم الشريف، وتشمل أبنية مساجد ومدارس، وبيوت أثرية.. وذلك من أجل التنقيب عن آثار لادعاءات مزعومة، وحولت مساحات واسعة إلى حدائق وممرات مشاة لتخديم المدينة اليهودية الموحدة.
وقد أوجدت الحكومة "الإسرائيلية"، وفق نظامها الخاص بها، الأسس التي تستند إليها في مصادرات واسعة النطاق تحت عنوان "التطوير في البناء المدني":
1. صادرت في الفترة الواقعة ما بين 1968 و1970؛ 15000 دونم أرض في القدس الشرقية لكي تقام فوقها أحياء سكن جديدة.
2. صادرت في الفترة الواقعة ما بين 1973 و1976؛ 90000 دونم أراضي في القرى المحيطة بالقدس من الشمال والشرق والجنوب. إضافةً إلى عشرة آلاف دونم في مناطق متفرقة.
3. صادرت عام 1980م حوالي 4000 دونم في القسم الشمالي على الطريق الرئيسية إلى رام الله، وقد مكّنتها المصادرات ومجموعها 119000 دونم لإقامة أربعة أحزمة استيطانية فوق المنطقة الموسعة لمدينة القدس..
الحزام الأول: ويتلخص اعتباره السياسي في تطويق قلب المدينة المكتظ بالسكان العرب، ببناء أحياء يهودية تؤدّي إلى فك ارتباط الأحياء فيما بينها، والسيطرة الاستراتيجية على المناطق المرتفعة فوق التلال إضافة إلى خلق أكثرية سكانية يهودية في المدينة. وقد جرى إشادة أربعة أحياء: رامات أشكول؛ جيفات هاميفتار؛ التلة الفرنسية؛ امتداد سانهدريا، ثم توسيعها إلى الشرق لتتصل بمباني الجامعة العبرية وإلى الغرب بإقامة حي نهلات دفنا، وراموت. وبذلك يقدّم هذا الحزام مجموعة مساكن لـ65000 مستوطن يهودي، مع مساكن لحوالي 14000 طالب في الجامعة العبرية. وقد قطع هذا الحزام كلّ اتصالٍ بمدينتيْ رام الله والبيرة، وحاصر قرى شعفاط وبيت حنينا..
الحزام الثاني: بطول ثلاثة كيلومترات من الواحدات السكنية المتصلة، وذلك إلى الجنوب من المدينة تل بيوت، وجوار بيت صفافا "جبلو" وباتصاله بالمستوطنات التي تجري إشادتها في محيط وعلى جبل أبي غنيم... يقدم هذا الحزام مساكن لـ120000 مستوطن يهودي. مع مجمعات سياحية وفنادق يصعب حصر مساحاتها.. مهمة هذا الحزام قطع الاتصال مع مدينتي بيت لحم والخليل ودمج قرية بيت صفافا بالقدس اليهودية.
الحزام الثالث: في أقصى شمال القدس الموسعة، ويضم منشآت ومباني ووحدات سكنية -مطار القدس الدولي- إضافة إلى المنطقة الصناعية "عتاروت".. والضاحية نيفي يعقوب وعناتوت وهي تخدم مركزياً كامل المدينة الموسعة للقدس.
الحزام الرابع: على بعد 14كم شرقي المدينة، ويشمل مستوطنات معاليه أدوميم (الخان الأحمر) لعزل المدينة عن المحيط الشرقي وقطع الاتصال عن مدينة أريحا.. وتتضمن مناطق الصناعة الثقيلة في "إسرائيل" كالصلب والحديد، والمباني الجاهزة والصناعات العسكرية..
القدس الكبرى:
وقد بدأت الدولة "الإسرائيلية" بالمصادرات في نطاق "القدس الكبرى" حيث ستتم عملية ابتلاع المدن العربية الممتدة في محيط مدينة القدس: رام الله والبيرة، وبيت جالا وبيت لحم وبيت ساحور مع ما مجموعه 60 قرية عربية في منطقة يعيش فيها اليوم حوالي 120000 عربي.
وفي الإطار الديمغرافي للمدينة تدلّ الإحصاءات الأخيرة على أنّ ما بقِيَ من عرب في مدينة القدس لا يتجاوز 200000 نسمة، منهم أربعون ألفاً في المدينة القديمة والباقي في القدس الشرقية 160000 نسمة و120000 نسمة في محيط وفناء مدينة القدس يقابلهم ما مجموعه ستمائة ألف نسمة من اليهود في نطاق القدس الموسعة الكبرى، وهذا ما تهدف إليه المخططات اليهودية.
وبعد، هل هو درس في التاريخ هذا الحديث أو من التاريخ!!.. منذ وضع (موسى مونتفيوري) حجر الأساس منذ 145 عاماً، لمشروع: الطوبوغرافية اليهودية لمدينة القدس، وكل يوم أرضٌ تضيع وكل يوم تتبدل الطوبوغرافية على الأرض..
وما 28 أيلول سنة 2000 ببعيد، يوم صعد شارون منصة الحرم الشريف يعلن رسم المشهد الأخير للطوبوغرافية اليهودية لمدينة القدس بتضمينات سياسية وعسكرية، فالقدس مقترنة دائماً بإضفاء الشرعية على السلطة...
مصادر البحث
1. قضية القدس: د. خيرية قاسمية.
2. تهويد القدس: نجيب الأحمد.
3. القدس: سمير جريس.
4. قصة مدينة القدس: يحيى الفرحان.
5. الكتاب المقدس والمكتشفات الآثارية الحديثة –كاتلين-كينون، ترجمة: شوقي شعث- سليم زيد.
6. استراتيجية الاستيطان الصهيوني: حبيب قهوجي.
7. الصليبيون في الشرق ميخائيل زابوروف.
8. لقد اغتصبتمونا أرضنا: فكتوريا والتز- يواخيم شيشا ترجمة م. نصار.
9. رشيد الخالدي- مجلة الكرمل.
10. شؤون فلسطينية.
11. دراسات فلسطينية.
12. التوراة وقاموس الكتاب المقدس.
13. الصليبيات: الدكتور شاكر مصطفى– محاضرة.
المصدر: من ندوة المهندس رياض زيد- دمشق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق