بحث هذه المدونة الإلكترونية

2014-05-09

أدوار المرأة الفلسطينية فى الثلاثينيات والأربعينات/ الباحثة الفلسطينية فيحاء عبد الهادي


أدوار المرأة الفلسطينية فى الثلاثينيات والأربعينات
تأليف: الباحثة الفلسطينية فيحاء عبد الهادي
إصدار مركز المرأة الفلسطينية للأبحاث والتوثيق

تمثل الذاكرة الوعاء الحاضن لهوية الأمة، فبدونها يُزور التاريخ ويُمحى، وتُقلب الحقائق، وتُباد ثقافة الشعوب. ومن هنا تنبع أهمية سرد الرواية الشفوية.



والرواية الشفوية هي نقل أحداث الماضي اعتماداً ما يتداوله أبناء المجتمع من قصص شفوي غير مدوَّن. وقد يصب التاريخ الشفوي في أكثر من قالب. من هذه القوالب، الأغاني الفولكلورية،والشعر الدارج، والزجل. ويرى البعض أن التاريخ الشفوي مقابل للتاريخ المدَّون، حيث يصب هذا الأخير في قالب الوثائق الرسمية. ولذلك فإن التاريخ الرسمي المدوَّن غالباً ما يكون مجحفاً لبعض فئات المجتمع المهمشة لا سيما النساء. وسبب إجحافه هذا ناتج عن تركيز مثل هذه القراءة على رواية التاريخ الرسمى فقط حيث ينصب جل اهتمام هذه القراءة على آراء وأعمال الجهات السلطوية. فغابت نتيجة لذلك أصوات فئات عديدة مثل النساء، وأهل الريف، وأهل البادية، وأهل الحرف التقليدية. ومن الملاحظ أن أهم ما يجمع هذه الفئات هو أنها مهمشة من المعرفة، والثقافة العالية، والسلطة. ولكون المرأة - ولا سيما الريفية- هي الأقل حظاً فى الحصول على التعليم الرسمي، وبالتالي الأقل وصولاً إلى مراكز السلطة والقرار، فلطالما هُمشت أدواها ورواياتها من التاريخ الرسمي المدوَّن. هذا وعلى الرغم من أن المرأة هى المحضن الأساسي لذاكرة الأمة. فلطالما لعبت جداتنا دوراً مركزياً فى نقل تراث أمتنا من قيم وتقاليد وعبر. ومن هنا تنبع أهمية إلقاء الضوء على الرواية الشفوية للنساء، فبدونها لا يُمكن للشعب الفلسطيني أن يتصدى لمحاولات طمس هويته وتهويده، بل بدونها لا مجال للتصدي للروايات الصهوينية ودعواتها المُغرضة.

تلعب رواية المرأة دوراً مركزياً فى التاريخ الشفوي. وذلك لكون المرأة مرابطة على ثغر الذاكرة الجماعية، تصونها وتحفظها من التشويه والمحو والضياع. وهنا تكمن أهمية هذا الكتاب الذي يقدم للمهتمين بدراسة التاريخ الفلسطيني، إعادة قراءة للتاريخ الخاص بفترة الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، تلك الحقبة الهامة جداً من تاريخ القضية الفلسطينية.

إن الدراسات التى تناولت مساهمات المرأة الفلسطينية في تلك الحقبة نادرة وشحيحة. كما ويحاول هذا العمل أن يقدم قراءةً مغايرةً لتلك التى كانت سائدة فى الدراسات القليلة التى تناولت اسهامات المرأة الفلسطينية، والتي قدمت صوراً نمطية لها، ولاسيما المرأة الريفية، والتى لم تحظ بما حظت به المرأة المدنية من اهتمام فى التاريخ الرسمي المدوَّن.

ينقسم هذا العمل الضخم والذى يقارب الألف صفحة، إلى مجلدين : الأول يبحث عن أدور المرأة الفلسطينية فى الثلاثينات، والثانى عن مساهماتها فى الاربعينيات. ثم ينقسم كل مجلد بدوره إلى بابين : الأول نظري والثانى يضم روايات وشهادات النساء الفلسطينيات. ولا يظن القارئ هنا أن البابين منفصلين، فلقد جاء الكتاب مترابطاً متكاملا يرتبط أوله بأخره. ففى الباب الأول التنظيرى، يتم توظيف الروايات بل إخضاعها لمقاربة تحليلية تفكيكية.

تحاول الباحثة في هذا العمل الموسوعي جاهدة أن تنبش ذاكرة النساء الفلسطينيات لتقرأ صوتهن الخفي، وذلك عن طريق الاسهاب فى التدقيق والتوصيف، بل وقراءة، وتدوين لكل ما يطرأ عند الحديث مع هؤلاء النسوة من لغة للجسد وانفعالاته. ولعل أحد أهم الإيجابيات البارزة لهذا العمل الموسوعي هو قدرته على الشفافية وسبر أعماق المجتمع الفلسطيني، مما جعله ينجح في تقديم مرآة لواقع المجتمع الفلسطيني تعكس كل أطيافه. فلقد دوَّن هذا العمل روايات الفلسطينيات حسب لهجاتهن، ولكناتهن الخاصة، مما يُمكن القارىء أن يتذوق كل لهجة ولكنة فيتلمس آثار القيم والعادات لمدن وقرى أرض فلسطين المباركة.

يأخذ هذا العمل الموسوعي الحافل بالروايات النسائية الشفوية القارىء في رحلة أنثروبولوجية ليبحر في التراث الفلسطيني، فيخوض بحر الحياة الريفية المعروفة ببساطتها الفطرية والزاخرة بقيم الإيمان والتكافل تارة، ثم يخوض بحر الحياة المدنية الحافلة بالنشاطات السياسية والعلمية والأدبية تارة أخرى. فتضىء هذه الرحلة مناطق في ذاكرته لطالما هُمشت ودُفنت، وتوقظ في نفسه حنيناً وشوقاً لهذه الأرض المباركة.

أما عن المنظار الذى اعتمدته هذه الدراسة التاريخية فهو المنظارالنسوي. فكما ترى الباحثة فيحاء عبد الهادى: "إنه المنظار النسوي المنهج البحثي الذى يُتيح حرية ومرونة للباحثات والراويات معا، حيث المعرفة الأعمق بنفسية النساء، وحيث تفكيك القيم السائدة، التى لا تعتبر تجارب النساء مكونا أساساً فى صناعة التاريخ". فهذه الدراسة تفترض أن المرأة هى خير من يفهم المرأة، وبالتالى هى خير من يسرد ويدون الرواية النسائية الشفوية. ومن ثمَّ ، فمن خلال هذا البحث المستفيض والذى امتد ليستغرق سنوات طوال من تسجيل وتدوين لروايات شفوية جلها للنساء الفلسطينيات ممن عاصرن أو سمعن عن تلك الحقبة المبكرة من التاريخ الحديث لفلسطين، جاء هذا الكتاب ليؤكد على الدور الهام الذى لعبتة المرأة فى التاريخ الفلسطيني.

فلقد ساهمت المرأة الفلسطينية مع الرجل فى جميع قطاعات الكفاح ضد المحتل الصهيوني الغاصب. وما استشهاد فاطمة غزال فى إحدى المعارك التى دارت بين الجنود البريطانيين والثوار الفلسطينيين إبَّان ثورة 1936، إلا شاهداً على أن المرأة الفلسطينية قد قدمت أكبر التضحيات. كما أن قصة فلاحي قرية البروة فى فلسطين، ستظل منقوشة فى الذاكرة الفلسطينية لتشهد على شجاعة وبسالة رجالها ونسائها. فالروايات الشفوية تحكي عن بطولة ما يزيد عن مائتي رجل وامراة تصدوا وتكاتفوا للجهاد ضد القوة الصهوينية الغاصبة مما دفع بهولاء المغتصبين للخروج والانسحاب خارج هذه القرية. وهذا مثال رائع على مشاركة المرأة الفلسطينية الرجل فى جميع الادوار السياسية والاجتماعية كافة. فقد كشفت هذه الروايات عن الدور العظيم الذى لعبته النساء الفلسطينيات فى نضالهن ضد العدوان الغاشم على وطنهن. فقد قامت الفلسطينيات بإسهامات عديدة، مثل إيواء الثوار، وتهريب السلاح، ومراقبة الطرق، ونقل الرسائل، وضرب الحجارة على المحتل الغضب، وتقديم الاسعافات الأولية للمقاتلين الجرحى. بل إن بعض الروايات تحكي كيف أن النساء كن يحملن السلاح. فقد كشفت الروايات عن اهتمام كبير ووعي لدى رجال الثورة لاسيما فى الريف على تدريب بناتهم وزوجاتهم على حمل السلاح، وذلك لتتمكن المرأة من القيام بالكثير من المهمات الليلية الصعبة لمعاونة رجال الثورة. كما تحكي العديد من الروايات عن نساء من قرى عدة ، وعلى وجه التحديد قرية الطيبة قرب طولكرم، حملن البنادق والبارود جنباً إلى جنب مع الرجال.

ولا يفوتنا هنا أن نشير إلى تلك التجربة التى أغفلها التاريخ الرسمي الفلسطيني المدوَّن ، والتى أبرزتها الروايات الشفوية للنساء الفلسطينات، وهى ماعُرف بـ " رفيقات القسام" ، وهى عبارة عن مجموعةٍ من النساء شاركن أبناء شعب فلسطين في الثورة العربية الكبرى 1936والتي تمخضت عن مرحلة جهاد القساميين. ويأتى إغفال هذه التجربة الفريدة لمشاركة المرأة الريفية السياسية في مقابل إهتمام التاريخ المدوَّن بمشاركة المرأة المدنية البارزة، والتى أخذت شكل المشاركة فى المؤتمرات السياسية العربية التى عُقدت فى الثلاثينات من القرن العشرين، وإنشاء الجمعيات الأهلية ، والاتحادات النسائية.

فمن خلال شهادة الراوية ميمنة عز الدين القسام، يطلع القارئ على مشاركة المرأة الفلسطينية فى المؤتمرات العربية. فقد شاركت هذه الراوية فى المؤتمر الذى عُقد فى تشرين الأول عام 1938 بالقاهرة ممثلةً الوفد الفلسطيني ، كما أشارت إلى علاقتها بهدى شعراوي الناشطة النسائية المصرية المعروفة.

كما إستفاضت الباحثة فى الحديث عن دور النساء الفلسطينيات فى إنشاء مؤسسات خيرية. فقد سردت الروايات تفاصيل نشاط "زهرة الأقحوان" والذى بدأ فيما يشبه النادي الاجتماعي وتطور ليشكل نواة عمل عسكري منظم. فمن خلال شهادة الراوية مهيبة خور والتى عاصرت تأسيس الجمعية ، يلاحظ القارئ كيف تطورت هذه الجمعية ذات الطابع النسائي البحت، حيث كانت تشتغل فقط بالأعمال الخيرية مثل تقديم مساعدات عينية للطلبة الفقراء، إلى أن تحولت إلى عمل عسكري منظم مذ وقوع حادثة قُتل فيها طفل فلسطيني بري أمام جميع المشتغلات بالجمعية.

ختاماً، إذا كان لنا أن نعيد استجماع أبرز الخيوط التى التقطناها خلال عرضنا لهذا الكتاب، فإن الخيط الأول يشير إلى أن هو أن المرأة الفلسطينية قد لعبت دوراً فعّالاً فى مسيرة الكفاح الوطنى فى جميع الدوائرالاجتماعية والاقتصادية والسياسية منها. أما الخيط الثانى فهو أن هذه الروايات الشفوية قد كشفت عن الدور المحوري الذى لعبته المرأة الريفية والتى طالما أغفلها التاريخ الرسمي المدوَّن. أما الخيط الثالث فهو أهمية الرواية الشفوية للمرأة الفلسطينية. وبالتالي أهمية استنطاق صدور النساء الفلسطينيات وتدوين تجاربهن وتوثيقها ضمن إطار مشروع للدفاع عن ذاكرة الأمة وتراثها. أما الخيط الأخير هو أن تدوين الرواية الشفوية للمرأة الفلسطينية يشكل مادةً ضخمة لمشروع حفظ ذاكرة الأمة وحقائق تاريخها من خضوع الشعب الفلسطيني لإبادة جماعية، رجالاً ونساءً وأطفالاً من قبل العدوان الصهيوني الغاشم. فما أحوجنا إلى شهادات وروايات تاريخية إنسانية تكشف عما تعرض له هذه الشعب من تنكيل وإبادة جماعية، لإعادة قراءة تاريخه، وإرجاع حقه المغتصب. فحتى لا يؤول مصير الشعب الفلسطيني إلى ما آلت إليه حضارات اليانكي فى أمريكا الشمالية من إبادة ثقافية ومحو لتاريخهم ، لابد من توثيق الرواية الشفوية لإنشاء مشروعٍ متكاملٍ يتضمن مادة حياتية وتفصيلية للثقافة والتاريخ الفلسطينيين، يكون وعاءً حاضناً للذاكرة الفلسطينية.

ليست هناك تعليقات: